هل تخلت إفريقيا عن القيلولة؟

تجري وقائع بعض مباريات كأس إفريقيا لكرة القدم في نسختها 34 بساحل العاج في ظروف جوية خانقة، وقبل الكلام عن الرطوبة أو القيام بالاستجابة لبناء ملاعب مكيفة فإن الوضع يتطلب -بادئ ذي بدء- احترام قارة بطبيعتها الخاصة وثقافتها المتنوعة؛ فهي أصل البشرية ومستقبلها. المناخ عموما يفرض نفسه على الجميع على الاجتماع والاقتصاد. تكيف الإنسان الإفريقي معها عبر الزمان والمكان. وهكذا فعوض أن تكون كأس إفريقيا منسجمة تماما مع الطبيعة والإنسان بالعمل على حمايتهما حتى لا يتعرضا للتدهور وللهلاك، أصبحت، على ما يبدو، في خدمة الشركات الكبيرة. لقد خلفت المباريات التي جرت على الساعة الثانية بعد الزوال، ردود فعل أجمعت على صعوبة اللعب في توقيت تعرف فيه درجة الحرارة مع نسبة الرطوبة أعلى مستوياتهما. وعوض التكيف مع الطبيعة ونواميسها جاء الخطاب متدمرا من الظروف المناخية، وكأن الرطوبة هي تلك اللجنة المنظمة التي فرضت على اللاعب الإفريقي المنافسة في هذا التوقيت الحرج متخلية هنا حتى عن ثقافة القيلولة والحكمة من ورائها. فكيف نضمن إذن الحماية في ظل السعي بكل الوسائل من أجل الربح؟ وهل الفرجة في الزمن الراهن مضمونة في غياب الكرامة؟ ومن هي الأطراف المستفيدة؟

هل ينتظر المنظمون احتجاج الفيلة بدل بني آدم؟ أم تنتظر الشركات العملاقة أن تُطلق أشجار الكاكاو صيحاتها الأخيرة المدوية لتندد بخطورة برمجة المباريات على الساعة الثانية بعد الزوال؟ يكفي ما يعانونه المزارعون من ظروف عمل غير آمنة، وإرهاق بدني وعضلي في ظل حرارة مفرطة. يتأكد اليوم -أكثر من أي وقت مضى- بأن الأسبقية تُعطى لأصحاب رؤوس الأموال دون غيرهم، فهم الباحثون، كل من موقعه، عن تحقيق هامش كبير جدا من الربح، ولو على حساب المزارعين واللاعبين. يمكن القول بأن لحلاوة الشكولاتة خلفياتها المرة، ولمتعة كرة القدم كواليسها السوداء التي تتجاوز الملابسات التقنية. يُحمل المتابع للمباريات الخطأ للظروف المناخية ليستريح باله ما دامت الشركات العملاقة تعتبر نفسها فوق الطبيعة وقوانينها فوق الجميع، مع العلم أنها تعلم علم اليقين بأن عصر الديناصورات ولى، والإنسان مهما طغى وتجبر فلا يمكن له أن يتنفس في ظل وجود طبيعة ملوثة.

كان على “الكاف” أن تُراعي خصوصية إفريقيا على الأقل لحماية اللاعبين حتى تسود الروح التي ينادي بها الرابح والخاسر، لأن حلقات جودة الحياة مترابطة ومتداخلة بين ما هو طبيعي واجتماعي واقتصادي. فاللاعب كيفما كانت جنسيته ولونه، ليس موارد بشرية، وليس مجموعة عضلية تُسخر لتحقيق أعلى نسبة من المشاهدات. إن النظرة الهرمية التي سادت وتسود داخل بعض المؤسسات لم تعد تُجدي نفعا، ففي غياب الإتيقا لا يمكن للشركات الكبيرة أن تصمد، خصوصا وكرة القدم لا تمارس بالأرجل فحسب، بل تُلعب كما يقول الحكماء بالعقل، العقل الذي لا يتوفر عليه فقط من يقرر، يملكه العامل واللاعب. لقد حان الوقت لقلب تصور الانتربولوجي “غيستاف لبون Bon Gustave” في إشارته “للعقل المدبر” باعتبار أن قاعدة الهرم ليست مُشكلَة من طبقة العبيد كما تصورها أفلاطون وهو يتكلم عن مجتمع أثينا قبل الميلاد. على “الكاف” أن تراعي المعطى الانساني والطبيعي، بالحرص على الكرامة، فالفيلة والأشجار وباقي المخلوقات تراقب إفريقيا، وحكماؤها يتابعون أصحاب القرار حتى ولو كانوا خلف الستار. فاللاعب ليس لعبة إلكترونية مسلية يمكن التحكم فيها كما هو الحال داخل قاعات مكيفة. واللاعب الإفريقي ليس هو العامل “سميث” صاحب القوة العضلية، كما تصوره تايلور، يتوفر على عقل عِجل ومطالب بالامتثال للأوامر ومنفذا لها لا غير. يعتبر هذا السلوك، بحسب عدة شهادات، احتقارا لكرامة الإنسان وقدراته. وفي هذا السياق تأتي انتقادات الأكاديمي الكندي هنري منزبرغ لإدارة بعض الشركات، ومعه آخرون، حيث يعتبر “أن التدبير بالاستناد للأرقام يؤدي إلى أفعال لا أخلاقية”، مشيرا هنا إلى مسعى الشركات للرفع من الأرباح كيفما كانت العواقب ولو على حساب حياة الإنسان وتوازن الطبيعة. وبالتالي لا يمكن لإفريقيا، بعد صراع مرير مع الاستعمار، أن ترضخ لبرمجة قد تكون مصدر هلاك لأبنائها.

جاءت كأس إفريقيا التي تقام حاليا في نسختها 34 بانتفاضة “الفرق الصغرى”، وهي ظاهرة صحية ومحمودة تظهر حق الفرق المغمورة في إبراز علو كعبها. وحملت هذه الدورة بعض الجوانب غير المضيئة كتنديد بعض المدربين واللاعبين بظروف توقيت المباريات على الساعة الثانية بعد الزوال، وما شكله ذلك من مخاطر على حياة المتبارين. فالظروف التي تُغيب احترام كرامة الإنسان تدفع، لسبب أو لآخر، الفاعلين للخروج عن إطار الروح الرياضية، كما وقع مع أحداث التي جرت بعد انتهاء مباراة المغرب والكونغو الديمقراطية. تصبح كرة القدم وسيلة “فتيش” للربح السريع وبأقل التكاليف بالنسبة للشركات الكبرى، وسط اضطراب المعنى بالنسبة للجمهور وخصوصا بالنسبة للاعبين حيث وُضعوا تحت ضغط مزدوج: المطالبة بالعطاء وبسخاء من جهة، ومن جهة أخرى ضرورة التأقلم مع درجة حرارة استثنائية ورطوبة في أعلى مستوياتها. وتجدر الإشارة إلى أن الفرق المشاركة في هذه الدورة لم تلعب كلها في نفس هذا التوقيت، بحيث عشرة فرق تم تجنيبها المواجهة في توقيت الثانية بعد الزوال، مما يكشف عن طريقة تدبير هرمية عمودية وغير شفافة خدمة لمصالح جهة دون أخرى.

لقد ظهرت في السنوات الأخيرة فكرة “التجارة العادلة”، وتشكلت التعاونيات، وسارعت للاستثمار في مجال إنتاج السلع أو تقديم خدمات تراعي ضمان الكرامة للعاملات والعمال، بأجور محترمة والاشتغال بشروط مقبولة، وباستغلال معقلن للموارد المائية والغابوية والحيوانية، تحت توصيات منظمات دولية، حفاظا على البيئة بكل مكوناتها. وعلى الرغم من محدودية تطبيق هذه الفكرة والإكراهات التي واجهتها مثل ضعف التمويل وشروطه المجحفة، ومشاكل التوزيع والمنافسة الشرسة، فإن بعض الدول من يخطو بثبات لتحقيق التوازن أو الانتاج بأقل الأضرار؛ كالبلدان الاسكندنافية، مع تجارب رائدة تقدمها اليابان وألمانيا، وهي الدول التي تقدم الخدمات الاجتماعية الممتازة وتخلق فرص الشغل عوض تسريح العمال. تقوم هذه الدول بإنتاج سلع بجودة عالية لأنها تراعي المشاركة من الأسفل، فعوض التنظيم الهرمي لمؤسساتها تعتمد على التأسيس لدوائر الجودة الكاملة فاتحة المجال لإبداء الرأي والانصات عند التخطيط، وليس الاستماع فقط بعد إجراء المقابلات كما وقع خلال مواجهة المغرب للكونغو الديمقراطية التي ولدت الانفعالية والارتباك.

يصبح الواجب القانوني والأخلاقي ضروريان لضمان صحة اللاعبين أثناء الطقس الحار، ومن المفروض أن تكون إفريقيا -عن طريق الكاف- سباقة لرفع شعار إجراء المقابلات في ظروف ملائمة، تعزز مبدأ السلامة وتُجنب الانصياع لتوصيات الشركات المستفيدة -وهذا هو الأهم- وفاء للحياة وتجنبا للهلاك، في وقت ترتفع الصيحات والنداءات من أجل إجراء المقابلات في حد أقصى لا يتعدى 32 درجة مئوية ودرجة رطوبة معقولة. وفي هذا المضمار، ارتأت رابطة اللاعبين المحترفين في عدة مناسبات بأن الوقت قد حان لمنع إقامة مباريات في درجات حرارة مرتفعة وخانقة سواء تعلق الأمر بمباريات التظاهرات الكبرى أو التي تجرى في إطار بطولات محلية. وكما هو معلوم فقوانين “الفيفا” تسمح بفترة راحة لالتقاط الأنفاس عندما تتجاوز الحرارة مستوى 32 درجة مئوية. وتجدر الإشارة إلى وجود أحكام قضائية مستجدة في هذا النازلة، فهنالك من يتحدث عن حكم قضائي بولاية ريو ديجانيرو بالبرازيل سنة 2010، الذي نص على حظر اللعب في حرارة تتجاوز 35 درجة مئوية.

تنظيم كأس إفريقيا هي مناسبة لنشر القيم الإنسانية، وذلك من خصال “ماما إفريقيا”، وعليها أن لا تنزلق في بيع كل شيء. ظلت إفريقيا وإلى زمن قريب، تجد الأمان من خطر الافتراس وسط الجماعة التي تحميهم وتدافع عنهم، وبحسب ديفيد سامسون، عالم الأنثروبولوجيا التطورية من جامعة تورنتو بكندا، فلا تتم لحظة القيلولة إلا بالعودة للقبيلة.

سيعود سؤال “الرطوبة والحرارة” للواجهة بأكثر من بلد وفي مناسبات قريبة قادمة، ولا يمكن للبرمجة في هذه الحالة أن تكون مقبولة إلا بمراعاة صحة الفاعل المركزي وهو اللاعب. تتابع “الفيفا” هذا الملف بكل القارات خصوصا مع تنظيم كأس العالم القادمة (2026) بالولايات المتحدة وكندا والمكسيك، في مدن تشتهر بارتفاع الحرارة والرطوبة في فصل الصيف، لتكون مناسبة لوضع حدود معقولة لإجراء المباريات حتى لا نتكلم عن “جنون الإنسان” وهو يهرول مثل البقر للاختباء تحت ظلال الأشجار، ولم يفكر في العودة لبناء مسكنه فوق أغصان الأشجار -إن بقيت- تفاديا للمخاطر المحدقة به من كل الجوانب.

غيلان خالد – هسبريس المغربية

 

 

Exit mobile version