أن تأتى متأخرًا خير من ألا تأتى أبدًا.. فى الأسبوع الماضى، تم إقرار تعديلات بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية من البرلمان المصري والتصديق عليه والعمل به، والتى نصت على أن تكون المحاكم الجنائية على درجتين، وأنه يمكن استئناف الأحكام الصادرة من محاكم الجنايات أمام محاكم استئناف جنائية، أسوة بما يحدث فى محاكم الجنح، وهو أمر ظل لسنوات طويلة مطلبًا للمنظمات الحقوقية ومجالس حقوق الإنسان وللساعين إلى العدالة والمطالبين بضمانات عادلة للمتهمين فى جرائم الجنايات..
وحتى نعرف أهمية هذه التعديلات، فإن المتهم أمام محاكم الجنايات كان إذا صدر ضده حكم بالسجن فإنه ينفذ العقوبة فورًا لأنه حكم نهائى ولا يكون أمامه إلا الطعن أمام محكمة النقض وهو مسجون، والأخيرة كانت تنظر فى صحة تطبيق القانون ولا تنظر فى موضوع الدعوى إلا فى حالات محددة ومحدودة، وكانت تمضى عدة سنوات قبل أن تصدر النقض حكمها نظرًا للعدد الكبير من القضايا التى تنظرها، إذ إنها المحكمة الوحيدة التى يحق لمن صدر بحقه حكم نهائى بالسجن الطعن أمامها، وكثيرًا ما كانت تقضى بنقض الحكم وإعادة الدعوى لنظرها من جديد أمام محكمة الجنايات، فإذا صدر حكم بالسجن مرة أخرى كان المحبوس يلجأ للطعن أمامها أيضًا، وإذا رأت عوارًا فى الحكم للمرة الثانية فإنها تنقضه وتتصدى بنفسها للفصل فى الدعوى، وبعد كل هذه المراحل إذا صدر حكم بالبراءة فإن المتهم البرىء يكون قد أمضى سنوات من عمره فى السجن دون جريرة،
الآن أصبح من حق المتهم الاستئناف على الحكم والإفراج عنه بعد دفع الكفالة التى تحددها المحكمة مثلما يحدث فى قضايا الجنح، وبالطبع لا يخل ذلك باللجوء إلى محكمة النقض بعد صدور الحكم من مستأنف الجنايات، وبهذا يكون للمتهم ثلاث فرص لإثبات براءته، ما يزيد من الاطمئنان على تطبيق معايير العدالة وأن المتهم استوفى حقه فى الدفاع عن نفسه، هذا الأمر لم يتحقق بسهولة رغم مطالبة جميع الحقوقيين والقانونيين به لعدة عقود، حتى تم النص عليه فى دستور 2014 ولكن فى نفس الوقت تم النص أيضًا على العمل بهذا التعديل بعد عشر سنوات من الموافقة على الدستور، وهو ما يعنى بدء العمل بها فى 17 يناير 2024، وكان الغرض من تأجيل العمل بالتعديلات لهذه الفترة الطويلة أن تتمكن وزارة العدل من تقديم مشروع القانون إلى البرلمان وتجهيز المحاكم المختصة وتشكيل الدوائر القضائية واختيار الموظفين وأمناء السر وغيرها من الأمور اللوجستية، ورغم أن موعد الاستحقاق الدستورى كان معروفًا منذ عشر سنوات فإن وزارة العدل انتظرت حتى الأيام الأخيرة لموعد الاستحقاق حتى تقدم مشروع القانون للبرلمان،
وهو ما أثار مخاوف القانونيين والحقوقيين ودفع المركز العربى لاستقلال القضاء والمحاماة الذى يترأسه المحامى الكبير ناصر أمين إلى إصدار بيان يحذر فيه من أن التأخر فى صدور القانون عن موعده يجعل الأحكام التى تصدر بعد 17 يناير باطلة، وأسرعت الوزارة بتقديم القانون وتمت مناقشته وإقراره والتصديق عليه والعمل به فى عدة أيام، وكنت أتمنى أن يحظى هذا القانون المهم بمناقشات واسعة حتى يصدر بلا ثغرات قد يتم اكتشافها مستقبلاً أثناء التطبيق، كما أن صدوره فى أيام قليلة أدى إلى الإسراع بتشكيل الدوائر واختيار الموظفين على عجل ودون تدريب مسبق، ولكن كل هذه المشاكل من السهل التغلب عليها نظرًا للخبرات القضائية الموجودة، كما أن وزارة العدل لديها من الكفاءات للقيام بهذه المهمة، نعم قد نحتاج إلى زيادة عدد القضاة بسبب زيادة عدد الدوائر إذ أصبح لكل دائرة جنايات دائرة استئناف، وهو أمر أعتقد أن وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء كفيلان بإيجاد حل له، كما يمكن تطبيق القانون المجمد والذى يتيح الاستعانة بالمحامين للعمل بالقضاء بشروط معينة وبعد خضوعهم لاختبارات، أيضًا يمكن فتح باب التوظيف ونقل موظفين من جهات أخرى للعمل بالمحاكم الجديدة، هذا القانون انتظرناه طويلاً، وقد تحقق أخيرًا، وهو بالفعل خطوة مهمة فى طريق العدالة الناجزة.
أسامة سلامة – روز اليوسف