أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية، هذه الأيام، مبادرة سياسية جديدة ظاهرها الرحمة للفلسطينيين والعرب وباطنها العذاب.
تنصّ المبادرة على وقف إطلاق النار في غزة، وإطلاق مسار سياسي يهدف إلى إقامة دولةٍ فلسطينية منزوعة السلاح، مقابل تطبيع عربي شامل مع الاحتلال.
وترمي الولايات المتحدة، بهذه المبادرة الخطيرة، إلى تحقيق ثلاثة أهداف، على الأقل:
الأول: إنقاذ الاحتلال وانتشاله من ورطته في غزة، وتحويل هزيمته العسكرية المُذلّة والمحقَّقة هناك، إلى نصر سياسي كبير عبر تطبيع الدول العربية معه جماعيًّا.
الثاني: رمي طُعم للدول العربية للإقبال على التطبيع مسبقا، بحجة أنّ هناك مسارا سياسيا يهدف إلى إقامة دولةٍ فلسطينية عبر استئناف المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والاحتلال، ويجب الانخراط في التطبيع الجماعي للمساعدة على نجاح هذه المفاوضات، ومن ثمّ، تكريس إدماج الاحتلال في المنطقة، وفكّ العزلة الدولية عنه، وتبييض وجهه النازي الذي سوّدته مجازرُه في غزة.
الثالث: محاولة تصفية المقاومة الفلسطينية في غزة، وحتى في الضفة الغربية، من خلال إسناد المهمة إلى دول عربية وغربية تُكلَّف بتهيئة الظروف لقيام “الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح” كما تريدها الإدارةُ الأمريكية وتسعى إلى إقناع القادة الصهاينة بها؛ أي أنّ هذه القوات العربية والدولية ستحاول تحقيقَ ما عجز عنه الاحتلال، وهو القضاء على المقاومة في غزة. وإذا تجسّدت المبادرة الأمريكية، فسنرى قواتٍ عربية تحارب المقاومة نيابة عن الاحتلال بحُجَّة “إقامة الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح” تحت رئاسة السلطة الحالية، وعلى حدود 4 جوان 1967، وسيتذرّع العربُ الذين سيتورّطون في تنفيذ هذه الخدعة الأمريكية – الإسرائيلية، بأنّ المقاومة “غير واقعية” ولا تعترف بالشرعية الدولية القائمة على “حل الدولتين”، ولذا، وجب دخولُ القطاع ونزعُ سلاحها بالقوة، وفرضُ هذا الحلّ.
وبالرغم من أنّ رفض الحكومة الصهيونية المتطرِّفة الفاشية إقامةَ الدولة الفلسطينية يخدم المقاومة، ويُفشل المبادرة الأمريكية الجديدة، ويُحرج السلطة الفلسطينية المتخاذلة والمطبّعين العرب، إلا أنّنا نخشى أن تعود هذه الحكومة العنصرية وتقبلها حينما تقنعها إدارة بايدن بأبعادها، وبأنّها تخدم الكيان بالدرجة الأولى، وأنّها ليست سوى حيلة جديدة لجرِّ الدول العربية إلى التطبيع وكذا محاربة المقاومة بنفسها مقابل إطلاق مسلسل مفاوضات ماراطونية جديدة بشأن قيام الدولة الفلسطينية.. وفي هذه الحالة، قد يقبل الاحتلال بهذا الطرح بشرط تجريد المقاومة من سلاحها أوّلًا قبل قيام الدولة منزوعة السلاح، وبعدها، يكتفي بالتفرّج على قوات الدول المطبِّعة وهي تدخل غزة لمحاربة المقاومة ومحاولة نزع سلاحها، ولا شكّ أنّ ما فشل فيه الاحتلال بقوّته وجبروته، لن تحقّقه أيُّ قواتٍ عربية خائنة ولو كانت مدعومة بقوَّاتٍ دولية.
ومن المؤسف أن نرى فلسطينيين وعربا يروّجون لـ”دولة فلسطينية منزوعة السلاح”؛ فقد وافق عليها الرئيسُ الفلسطيني محمود عباس قبل سنوات، ودعا إليها الرئيسُ المصري عبد الفتاح السيسي قبل نحو شهرين، على هامش استقباله رئيسَيْ حكومتَي بلجيكا وإسبانيا، وبهذا الصّدد نسأل: أيّ “دولةٍ” هذه التي تقبل بأن تعيش تحت رحمة الاحتلال ولا يكون لها جيشٌ يحمي حدودها البرية والجوية والبحرية ويدافع عن سيادتها؟ من شروط قيام أيِّ دولة توفُّرُ السيادة، فأيُّ سيادةٍ ستمتلكها دولةٌ منزوعة السلاح وتعيش إلى جانب “دولة” أخرى تملك أحدث الأسلحة في العالم حتى النووية؟ أيُّ ذلٍّ هذا الذي قد تقبله السلطة الفلسطينية وعربُ الانبطاح والعمالة بطيب خاطر؟
إنّما المفارقة أنّ تصريحات وزراء الاحتلال ترفض قيام دولة فلسطينية حتى وهي منزوعة السلاح، ما يعني أنّ الصهاينة صادقون مع أنفسهم؛ فهم يريدون دولة يهودية خالصة “من النهر إلى البحر”، كما قال نتنياهو قبل أيام، وبعد أن يستكملوا مخطّطات تهجير الفلسطينيين إلى سيناء والأردن، تبدأ المرحلة الثانية من مشروعهم الصهيوني الكبير وهي البدء في التوسُّع واستعادة أراضي “إسرائيل الكبرى” من النيل إلى الفرات، وصولا إلى خيبر ويثرب، فهل صحيحٌ أنّ ذلك كلّه قد غاب عن أذهان العرب؟ أم أنّهم أصيبوا بالبلادة، فأصبحوا يسيرون نحو المذبح وهم مفتوحو الأعين؟
الدولة الفلسطينية ستقوم يوما، لكنها لن تكون دولة هزيلة ذليلة منزوعة السلاح وعلى أراضي الضفة وغزة فقط، أو على جزيرةٍ اصطناعية كما يقترح وزيرُ الخارجية الصهيوني يسرائيل كاتس، بل ستقوم على فلسطين كلّها، من النهر إلى البحر، وبعد أن تتمكّن المقاومة من دحر جيش الاحتلال وتفكيك الكيان وإعادة المستوطنين من حيث أتوا أو آتى آباؤهم وأجدادهم كما حدث للمستوطنين الفرنسيين والأوروبيين بالجزائر في صيف 1962، وما حدث يوم 7 أكتوبر ليس سوى تمرينٍ بسيط استعدادا لمعركة التحرير الكبرى القادمة حتما رغم أمريكا وعملائها العرب، وهي مسألة وقت.
حسين لقراع – الشروق الجزائرية