الدولة الصهيونية التي اختلقها -زورا وقهرا- الغرب الامبريالي، تستمد فلسفة وجودها من دعاية تلمودية، وضع فقهَها العقائدي والسياسي زعماءُ الصهيونية اليهودية، ممن نشأوا وتربوا ونهلوا من الثقافة الغربية الاستعمارية، وقد بنوا خيالهم الفلسفي والسياسي على مآسيهم التاريخية، إذ جعلوا فكرة تدمير نبوخذ الثاني صرح حضارتهم أساسا لبناء عقائدهم الفكرية، فاعتبروا سقوط الهيكل أو المعبد الذي بناه النبي سليمان في القدس، نقطة ارتكاز في بناء فكرهم العقائدي للصهيونية، إذ أتى على هيكلهم الأشوريون سنة 587 ق. م، ثم تلته قصة السبي الشهيرة التي قهرتهم وأذلتهم أزمانا طويلا.
ويُعدّ التلمود النص المركزي لليهودية الحاخامية، والمصدر الأوّل للشريعة الدينية اليهودية، الذي جعلته الصهيونية مصدر إلهام لنهضتها، والصهيونية حركة عقدية سياسية، ظهرت كفكرة أيديولوجية من التراث الثقافي والديني اليهودي، وقد أخذت هذه العقيدة في التشكل خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر في التجمعات اليهودية، المنتشرة في شتات وسط دول أوروبا وشرقها.
كانت هذه الفكرة التي اختمرت في عقول زعماء الحركة الصهيونية، تقوم على ضرورة إيجاد كيان سياسي صهيوني، تضمّه دولة قومية تجمع شتات اليهود من دول العالم، وتنهي حالة التيه التي يعيشونها منذ سبيهم الكبير، وتمكّن هذه الدولة من عودة الأمة اليهودية من الشتات إلى الوطن الأم بأرض الميعاد بفلسطين، أخذت هذه الفكرة تشغل بال قادتهم وزعمائهم وتستهويهم لزمن غير يسير، وكانوا يوظفون النصوص الدينية المستلهَمة من التلمود، وهي التي زيّفوا كثيرا من حقائقها على أيدي الكتبة والحاخامات، وقد أدخلوا عليها حقائق لا تمتّ إلى التوراة بشيء من الحق، وإنما حرفوها بما يخدم مشاريعهم الدينية والقومية والسياسية والاقتصادية، لتعبئة الرأي العام اليهودي، كيما يتقبل الفكرة الصهيونية ويسهل تحويلها إلى حقيقة سياسية واقعية.
والأساس الأيديولوجي الذي قامت عليه الحركة الصهيونية، أن الشعب اليهودي عاش دهورا طويلة في أرض الشتات، وأنه إن استمر على هذه الحال، فإن الهوية اليهودية ستزول من الوجود، أو ستذوب في المجتمعات الغربية والشرقية التي يوجدون بها، لأنهم يعيشون في أقليات مهمَّشة ومنبوذة وممقوتة من الشعوب، وكانت هذه الأيديولوجيا قد مسّت لديهم الوتر الحساس، فحفّزت الكثير من زعماء الصهيونية ومثقفيهم وإعلامييهم، على بث هذا الوعي في التجمعات اليهودية، لأن بعض المتدينين اليهود رفضوا فكرة تأسيس الدولة الصهيونية، لأنها تتعارض مع تعاليم التوراة التي تنص على أن اليهود ابتلاهم الله بالتيه في الأرض.
ومما شجّع على بروز هذه النزعة القومية لدى اليهود الصهاينة، ما رأوه من ظهور اتجاه قومي في أوربا خلال القرن التاسع عشر، بعد أن نشأت الدولة الوطنية عندهم في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وقد أدى بروز القومية في أوربا إلى نشوب حروب طاحنة بينهم، كل ذلك غذى الشعور القومي الصهيوني، وجعله يطمح إلى تأسيس كيان سياسي يجمع شتات اليهود، تقليدا للنزعة القومية الأوروبية التي عاشوا أحداثها.
وكان تيودور هرتزل الكاتب والصحفي السويسري، أول من طرح فكرة تأسيس الدولة القومية اليهودية، وسرعان ما تلقفتها نخبة المجتمع اليهودي كفكرة قابلة للنمو والتحقيق، في حال اقتناع المجتمع اليهودي بها وناضل من أجل بلوغ أهدافها، ولمّا أخذت الفكرة في النضج أطلق الصحفي ناتال بيرنبون اسم “الصهيونية” عام 1890على هذا الكيان السياسي، الذي يعبّر عن معنى النهضة، وكانت فلسطين هي الوجهة التي اختاروها، لتأسيس كيانهم السياسي المشؤوم.
واستقى هرتزل فكرة الدولة من حاخامات سبقوه في الدعوة إلى ضرورة تجميع اليهود في كيان قومي وسياسي، يحفظون به وحدتهم وهويتهم وثقافتهم، حين رأوا تنامى الشعور بمعاداة السامية في الدول الأوروبية، بعدما طغوا ونشروا الرذيلة وجميع ألوان الشر والفساد والإفساد، فاجتمع الغرب على كره اليهود وبغضهم، لذلك ظهرت فكرة ما أسماه اليهود “معاداة السامية” لاستدرار العطف عليهم من السياسيين والمثقفين والطبقات العليا في المجتمعات الغربية، ولاسيما من قبل الإعلاميين المؤثرين الذين يملكون قوة التأثير في الرأي العام وتوجيهه، على نحو ما نشاهده اليوم في توجيه السياسة الدولية من طريق النقد اللاذع لرجال السياسة والمؤثرين من مختلف الطبقات الاجتماعية العليا في مجتمعاتهم.
ولما وجد هرتزل قبولا لفكرته، ألّف كتابا أصدره عام 1896، تحت عنوان” الدولة اليهودية”، ضمّنه مجموعة من الأفكار والمبادئ، تنظّر لتأسيس الدولة اليهودية، ضمن مشروع دقيق وواضح المعالم، ومن ركائزه الأولى وجوب تشجيع اليهود على الهجرة إلى أرض فلسطين، وإلزام المؤثرين منهم ببعث مشاعر اليقظة وغرس الروح الصهيونية في عقولهم ونفوسهم، وهي الروح التي تقوم على وجوب تأسيس دولة يهودية قومية، على أرض أسلافهم التاريخيين في فلسطين وعاصمتها أورشليم، وإعادة بناء الهيكل رمز الديانة اليهودية والهوية التوراتية.
وأخذت المحاولاتُ الأولى في تجسيد هذا المشروع على أرض الواقع، على أيدي جمعية يهودية اجتمعت بمدينة خاركيف الأوكرانية عام 1882، أطلِق عليها اسم جمعية “بيلو”، ورسموا هدفا أوّليا يكون بمثابة النواة الأولى، لتجسيد فكرة تأسيس الدولة اليهودية، بإنجاز مشروع صهيوني تكون انطلاقته، تأسيس تجمعات فلاحية لليهود الشرقيين في فلسطين.
وكان نشاط الحركة الصهيونية يتنامى في أوروبا، بعدما نضجت الفكرة لدى المجتمع اليهودي وزعمائه، واكتسبت اهتماما سياسيا وإعلاميا متزايدا في الغرب وكثير من دول العالم، بعدما عُقد المؤتمر الصهيوني الأول بين 29 و31 أوت، من عام 1897 في مدينة بال السويسرية.
وقد اكتسبت الحركة الصهيونية اهتماما سياسيا وإعلاميا كبيرا في أوروبا والعالم، بعد انعقاد هذا المؤتمر المشؤوم على فلسطين والأمة العربية والإسلامية.
أعلن المؤتمرُ قيامَ الحركة الصهيونية العالمية، وانتخب لهذا الغرض لجنة تنفيذية، جعلت مدينة فيينا مقرًّا لوجودها ونشاطها، كما قرر المؤتمرون تأسيس مؤسسات مالية، في شكل صندوق يموِّله أثرياء اليهود والمشتركون البسطاء منهم عام 1901، بناء على ما تقرر في المؤتمر الخامس.
بعد هذه الإجراءات المتسارعة، تقاطرت هجراتٌ يهودية منظمة من أوربا الشرقية على فلسطين، وبخاصة من روسيا بعد قيام الثورة البلشفية التي باءت بالفشل عام 1905.
كانت الخلافة العثمانية -حينئذ- تعاني من أمراضها وضعفها وتقهقرها، ولكنها كانت تصارع على البقاء والصمود، فلجأ إليها هيرتزل وطلب منحه “حق عودة اليهود إلى فلسطين” لتأسيس دولتهم على أراضيها، وكانت مساعيه تجري على قدم وساق بين 1896 و1906، وقد أغرى الخليفةَ بأن يسعى لدى الدول الأوروبية لخفض المديونية الكبيرة التي كانت تثقل كاهل دولة الخلافة، فلما فشلت مساعيه ذهب إلى بريطانيا ونسج علاقاتٍ ودية مع ساسة بريطانيا، بما فيهم وزير المستعمرات جوزيف تشامبرلين، فاقترح عليه جوزيف إقامة تجمع لليهود في العريش أو أوغندا، لأن بريطانيا كانت تعلم أن السلطان العثماني لا يقبل فكرة تأسيس كيان سياسي لليهود بفلسطين.
إلا أن هذه المحاولة كانت ناجحة من الوجهة السياسية، إذ استطاع هذا الصهيوني أن يقنع بريطانيا الامبريالية صاحبة الشأن الكبير -يومئذ- بفكرة تأسيس الدولة الصهيونية، والمشاريع الخيالية -دائما- تبدأ بفكرة بسيطة تُرمى إلى الشارع، ثم تنضج وتنمو وتتطور وتخرج إلى التجسيد في أرض الواقع طالما وراءها مطالبون.
انتقد الصهيوني الروسي شاييم ويزمان، رئيس إسرائيل بين 1949-1952، خطة هيرتزل الذي كان ينادي بـ”الصهيونية الديبلوماسية” على أنها غير مجدية، فاقترح بديلا عنها سمّاه “الطريق الملكي”.
واتصل ويزمان مباشرة بمحيط ملك بريطانيا، وأثمرت جهوده بوعد بلفور المشؤوم، الذي صدر في الثاني من شهر نوفمبر 1917، وقد وطّد لتأسيس دولة الكيان الصهيوني بعد ما أتيحت الظروف السياسية في المشرق العربي، بتحالف الوهابيين وبريطانيا على الخروج على العثمانيين والقبول بتأسيس “دولة إسرائيل” في فلسطين في حال وصولهم إلى الحكم، بعدما رفض شريف مكة العرض البريطاني بتأسيس دولة الكيان في قلب الأمة العربية والإسلامية.
كانت المساعي الصهيونية السياسية تتسارع في أعمالها، وتتزامن مع الهجرات اليهودية المنظمة والمتتالية لتدارك الضعف الديمغرافي أمام الفلسطينيين، ومما عطّل تسارع الحركة الصهيونية في تنفيذ مشروعها السياسي والقومي في بناء كيانها القومي، هو معارضة الكثير من اليهود فكرة تأسيس الدولة، لأنه يتعارض مع تعاليم التوراة، ولكن سرعان ما خفتت حركة المعارضة اليهودية، بعد إبادتهم في محرقة الهولوكوست على أيدي النازيين، فانتقصت أعداد المعارضين، وتيسّر على الصهاينة السياسيين تنفيذ وعد بلفور، وأسسوا كيانهم السياسي والقومي في 14 مايو عام 1948، فكانت النكبة الحقيقية التي حلّت بالفلسطينيين والأمة.
وتحققت فكرة هرتزل التي بدأت بفكرة بسيطة، ثم وصلت إلى تأسيس كيان قومي عنصري غاشم، على أرض فلسطين التاريخية، وهاهي عصابات الكيان المهاجرة من شرق أوروبا وشتات العالم تستولي على كل فلسطين، على حساب الحقوق المشروعة لأصحاب الأرض الأصليين، ومما زاد عصابات الكيان غلوًّا وتطرُّفا وخروجا عن القانون والأعراف، هو تخاذل النظام العربي الذي باع كل شيء من أجل مصالح الزمر الحاكمة، ولاسيما زمر المطبِّعين والخائنين والناكثين والقاسطين والمنافقين والمارقين.
والعلمانية التي تتبناها سياسة الكيان، ليست إلا دعاية سياسية لم تتجاوز مستوى الخطاب الاستهلاكي فحسب، لأن محتوى أيديولوجية هذا الكيان وجوهره، هو تعاليم التلمود المتطرفة، التي أوصلت المتطرفين إلى الحكم، وأصبحوا يدعون علانية إلى التقتيل والحرق والتدمير والتخريب والتحطيم والتعذيب لكل الفلسطينيين.
فضلا عن كون سياسة الكيان الداخلية سياسة عنصرية راديكالية، لأن ممارساتهم على بني ملّتهم من اليهود الفلاشا الأحباش ويهود العرب سياسة عنصرية مُفرِّقة، فقد جعلوهم من الطبقات الاجتماعية الدنيا، التي لم تحظ بأي امتياز سياسي أو قيادي أو وظيفي سامي إلا في القليل النادر.
خير الدين هني – الشروق الجزائرية