المهدي من مدينة الترك إلى البقعة: “وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم”

انتهى الإسلاميون كما انتهى معارضو الإنقاذ في زمانهم وأنصار الدعم السريع ليومنا إلى اجترار المهدية وفتحها الخرطوم في 1885 للإدلاء برأي عن ممارستهم السياسية مقاسة على الواقعة التاريخية. وهذا مستغرب من إسلاميين كانت المهدية في يوم من الأيام باعث إلهام لهم في نصرة الدين وتحكيمه في المعاش. ومما يستغرب لهم في معارضتهم تعديات “الدعم السريع” في غزو الخرطوم، إعادتهم إنتاج ما أشاعته كتابات أوروبية باكرة مثل “السيف والنار” لأدولف سلاطين باشا، حاكم دارفور تحت الحكم التركي، وقعيد المهدية حتى هرب من الأسر، عن المهدية. وهي كتب لمؤرخين إنجليز رأي مهني سيئ فيها، فكتب أخيراً المؤرخ الإنجليزي فيرغس نيكول عنها قوله إنها مؤلفات فيها تلوين الحقائق بدرجة عالية… امتلأت صفحاتها بازدراء متعمد لكل ما وقف من أجله المهدي”. وقال عنها إنها مما يمكن أن يقال إن مؤلفها الحقيقي هو الميجور إف آر ونجت، رئيس استخبارات الجيش المصري، وحاكم السودان العام لاحقاً، وصدرت بإشرافه المباشر. وكان يريد بها تهيئة الجمهور البريطاني ليرضى عن حكومته متى قررت “استعادة” السودان، كما كان يقال، وليروا في تلك الاستعادة نبلاً حضارياً أبيضاً يستنقذ السودانيين من حكم مستبد شرقي.

ومن حسن الطالع أنه لم يعش في وسطنا من شهد فتح الخرطوم شاباً حدثاً فحسب، بل توافر أيضاً على كتابة شاهد عيان عنه، وذلك هو الأنصاري بابكر بدري الذي قاتل في صفوف المهدية في حملتها على مصر، وسلم بعد هزيمة المهدية في معركة كرري (1898)، وعاش ليبني صرحاً تعليمياً من مرحلة الأساس إلى أن صار جامعة غراء للبنات، هي “جامعة الأحفاد” بمدينة أم درمان.

وقف المهدي قبل بيعة الأنصار له بفتح الخرطوم ليقول لهم “إذا فتح الله عليكم، غردون (الحاكم العام الإنجليزي الذي عينه الأتراك لمحاربة تجارة الرقيق) لا تقتلوه، والشيخ حسين المجدي لا تقتلوه، والفقيه الأمين الضريري لا تقتلوه”. ونسي بابكر العالم الرابع. وزاد المهدي، “ومن رمى سلاحه لا تقتلوه ومن قفل عليه بيته لا تقتلوه”، فاعترضه أنصاري قائلاً إنهم بالفعل يتركون من رمى سلاحه، ولكنه يعود ويأخذه ويقتلهم به. فرد المهدي قائلاً اقتلوا من تجدونه في خط النار. وقرأ “فلم يكن ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي خلت في عباده”، ثم وقف وقال لهم أن يبايعوه على “زهد الدنيا واختيار الآخرة”. وقال بدري إنه لم يعقل معناها حتى شعت في نفسه وهو يقاتل لأجل الإسلام زهادة في الدنيا واختياراً للآخرة.

وجرى بعد الفتح احتلال لمنازل عليه القوم في الخرطوم. فقال بدري إنهم وقفوا عند منزل تاجر اسمه أبو السعود. ورأوا عند باب مفتوح ابنته العانس تمشط شعرها. فخافت وأغلقت نفسها دونهم. فقالوا “اخرجي نحن ولاد بلد نحفظك لا نؤذيك، عليك أمان الله ورسوله والمهدي”. وما زالوا بها حتى خرجت. فأخذوها إلى بيت محمد باشا حسين الذي صار مأوى للأمير مكين ولد النور. وتزوجت أخيراً بمحمد صالح، جد الإشراف، أي أهل المهدي. وجاءت لزواج بابكر بدري نفسه ولقيته وشكرته بعد أن حكت ما تم بينهما. ثم جاء الأمر من المهدي بحجز المنازل يوم الفتح. وحكى بدري عن ذهب ومال وجدوه في أحد البيوت فربطوه في بشكير وحملوه إلى بيت المال. وأضاف “ولم يخطر ببال أحدنا أنه يحمل مالاً فيه الغناء لمدة الحياة لو اختلسه”. واستعجب كيف أنه على شبابه، 23 سنة، أخذ تعليمات المهدي مأخذ الجد “ولكن رجانا لما عند الله صرفنا عنها”.

وكان بدري حاضراً زيارة المهدي يتفقد الخرطوم مباشرة بعد فتحها. وجاء على حصان أسود حتى وصل بيت المال الذي اختاروا له بيت المفتي شاكر الذي جادل المهدي مع غيره من العلماء، مثل من عفا عنهم في دعواه المهدية وكذبه، فصعد المهدي السلم وبدري في معيته، بل “كنت ملتصقاً بصفحته. فأول ما فتح الغرفة المحفوظ فيها الذهب من حلي وجنيهات وسبائك أكواماً. فلما فتحت الغرفة وتوهج الذهب التفت المهدي عنه بسرعة البرق وصد عنه راجعاً. فوقفت وتفكرت بالذهب وذكرت بيت البوصيري:
فراودته الجبال الشم من ذهب. وقلت لنفسي والله هو الشمم”.

ولقيت المهدي امرأة تبكي لأن أطفالها في الزريبة. فسأل المهدي أحمد سليمان أمين بيت المال عن الزريبة. فقال هي موضع حجزنا فيه نساء الخرطوم اللاتي لم نجد لهن معارف. فمشى نحو الزريبة وسمعوا ضجة تصدر منها. فأمر أحمد “يا أحمد، كل هذه الحريمات يوزعن قبل غروب الشمس فمن عرفها أحد، أو عرفت هي أحداً، تسلم إليه. والشباب، ممن لم يعرفن، ولا يعرفن أحداً، زوجوهن”. ومضى من هناك إلى منزل أحمد سليمان. ففطروا زلابيا (لقيمات القاضي). ووقف خطيباً في صلاة الجمعة قائلاً: يا أصحاب المهدي أحمد سليمان (أمين بيت المال) شغل الإشراف بالمال قولاً: نعوذ بالله من حالهم ثلاث مرات”. والإشراف طروق وكأن على رؤوسهم الطير وهم عشيرته الأقربون. وقال بدري هذا هو القول الفصل الذي ليس بالهزل”. وزار المهدي قبر والدته القريب من محطة السكة الحديد بالخرطوم.

وقصراً للحديث لم يبقَ المهدي طويلاً في الخرطوم، “مدينة الترك”. فهجرها تندب خرائبها سوءتها. وانتقل منها إلى أم درمان على ضفة النيل الأبيض الغربية وكانت ثكنة عسكرية قديمة في البلقع ليجعلها حاضرة دولته. وبدأ من الصفر ليبني المدينة المسلمة الصحيحة. وأم الناس في أول صلاة جمعة بأم درمان وقرأ “وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين”. وانحنى بعدها. وقال بدري إنه ظنه سيموت. ولكن لما رفع رأسه فإذا لحيته كلها تقطر دمعاً. ولما وصل إلى آية “أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه”. كررها ثلاث مرات.

وامتثل المهدي لفقه المدن القرآني لم يحد، فقرأ من القرآن في آخر خطبه قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى قوله تعالى: “وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال. وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال”.

ود المرء لو جاء الإسلاميون إلى فتح المهدي للخرطوم لغير مضرب المثل بغزو “حميدتي” لها. فهذا درك. وهو مجيء بمثابة تعزية بالتاريخ لن يبلغوا به علماً بأنفسهم ولا بـ”حميدتي”. فلو جاءوا إلى فتح الخرطوم بفقه الإسلام وتقوى المهدي لترقرق الدمع منهم وضرج اللحى. كان غزو “حميدتي” للخرطوم دعوة إلى وقفة للإسلاميين مع النفس اللوامة وهم يرون قرية، الخرطوم، بطروا معيشتها لـ30 عاماً لتقع بعدها في براثن الهرج. فالمدن التي تختصم مع الثقافة تسفيها السافيات.

عبد الله علي إبراهيم

Exit mobile version