تاريخ العرب العمانيين في شرق أفريقيا، وتحديداً في زنجبار وما جاورها، تاريخ ذو شجون، ومليء بالقصص والحكايات والشواهد الدالة على عمق تأثيرهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي والحضاري في هذه البلاد.
والمعروف أن الإمام أحمد بن سعيد أدرك بعد توليه السلطة في مسقط سنة 1744 أهمية استمرار وتعزيز التواصل بين بلاده وشرق أفريقيا، والذي بدأ قبل ذلك بقرون طويلة نتيجة هجرات عمانية متتابعة إلى تلك البلاد (الهجرة الجلندانية في القرن السابع الميلادي ثم الهجرة النبهانية في القرن 14 الميلادي، وصولاً إلى حملة وهجرة اليعاربة في القرن 16 الميلادي)، والاحتكاك من خلال التجارة البحرية في المحيط الهندي.
وفي عهد السلطان سعيد بن سلطان البوسعيدي تمّ تثبيت الحكم العماني هناك، لا سيما بعد أن نقل السلطان عاصمته من مسقط إلى زنجبار في عام 1832، وهو ما أسهم في قيام دولة عربية إسلامية في تلك البقاع وقيام نهضة حضارية مختلفة الجوانب فيها.
ويمكن وصف عهد السلطان سعيد بن سلطان (1804 ــ 1856) بالفترة الذهبية في تاريخ عمان، لأنه استطاع، بسبب شعبيته وأسطوله التجاري الضخم وتمتعه بمركز دولي مرموق، بناء إمبراطورية مترامية الأطراف، هي الأوسع في التاريخ الحديث، امتدت أراضيها الأفريقية من مقديشو شمالاً وحتى رأس دلجادو جنوباً مع نفوذ سياسي امتد في الشمال الغربي حتى مملكة أوغندا وأعالي الكونغو وبوروندي ورواندا، لكن بعد وفاته في أكتوبر 1856 في طريق عودته من عمان إلى زنجبار على متن فرقاطته «كوين فيكتوريا»، تم تقسيم الإمبراطورية العمانية إلى سلطنتين، فأصبحت زنجبار تحت حكم السلطان ماجد بن سعيد، وعمان تحت حكم السلطان ثويني بن سعيد.
وفي ظل الدولة العمانية في شرق أفريقيا، وعلى هامش التواصل والتمازج الحضاري بين العمانيين والأفارقة برزت في زنجبار شخصيات عمانية عديدة من تلك التي وضعت نفسها وعلمها في خدمتها، فلعبت أدواراً مهمة في تاريخها ونهضتها وبناء مؤسساتها الإدارية والمدنية، ناهيك عن نشر الإسلام واللغة العربية وإنشاء المدارس وتأسيس الصحف.
أحد هؤلاء الذين تذكرهم صفحات التاريخ المضيء للعرب العمانيين في شرق أفريقيا هو المرحوم الشيخ عبدالله بن صالح الفارسي، الذي سيكون محور حديثنا هنا، خصوصاً وأن الكثيرين، ولا سيما من الأجيال الشابة، لم يسمعوا به.
ولد القاضي والمعلم والأديب والمؤرخ والصحافي عبدالله بن صالح بن عبدالله بن صالح بن قاسم بن منصور بن حيدر بن أحمد الفارسي في الأول من ديسمبر 1912 بجزيرة زنجبار لأسرة عربية عمانية مهاجرة، حيث كان جده الرابع الشيخ قاسم بن منصور الفارسي قد انتقل من موطنه في مدينة صحار الواقعة شمال عمان إلى جزيرة إنجريجة التابعة لزنجبار آنذاك والواقعة حالياً في دولة جزر القمر، تصحبه ابنته الكبرى وزوجها مال الله محمود.
وفي إنجريجة تزوج الجد قاسم بن منصور من إحدى نسائها وأنجب منها ابنته «فاطمة الإنجريجية» (تمييزاً لها عن أختها الكبرى). كان ذلك في زمن السلطان برغش بن سعيد البوسعيدي، الذي حكم سلطنة زنجبار وامتداداتها الأفريقية بعد وفاة أخيه السلطان ماجد بن سعيد سنة 1870 وحتى وفاته سنة 1888.
ويذكر التاريخ لهذا السلطان أنه أول من سك عملة نقدية معدنية لزنجبار (البيسة البرغشية)، وهو أيضاً أول من أنشأ مطبعة فيها تحت اسم المطبعة السلطانية، تأثراً بما شاهده في أوروبا، فقامت المطبعة بطباعة كتب ومعاجم دينية وأدبية كثيرة أوقف السلطان بعضها لعموم المسلمين وطلبة العلم.
نشأ الفارسي وترعرع في زمن السلطان خليفة بن حارب البوسعيدي، تاسع سلاطين زنجبار من العرب، الذي تولى السلطة قبل عام من ميلاد الفارسي وحتى تاريخ وفاته عام 1960، وكان من أكثر سلاطين زنجبار حكمة وبصيرة وتواضعاً وخلقاً وقدرة على السير ببلاده بأمان وسلام وسط ظروف وتحولات الحربين العالميتين الأولى والثانية، ووسط تفشي المد الشيوعي في القارة الأفريقية.
وحينما بلغ الفارسي سن دخول المدارس أخذه والده إلى سيدات مسلمات كن يعلمن القرآن في بيوتهن، فحفظ القرآن على أياديهن، ثم التحق في عام 1924 بالمدرسة الابتدائية الحكومية الوحيدة في زنجبار، التي كانت قد تأسست سنة 1904 في عهد السلطان علي بن حمود البوسعيدي (1902 ــ 1911).
وفي هذه المدرسة درس مختلف المواد العصرية إلى جانب العلوم الشرعية والخط والتجويد واللغة العربية، ليلتحق بعد ذلك بمعهد المعلمين، الذي كان إحدى ثمار اهتمام السلطان خليفة بن حارب بالجوانب التعليمية.
هذا الاهتمام لم يتجل في إنشاء معهد لتدريب وتخريج المعلمين فقط، وإنما تجلى أيضاً في تأسيس المدارس في العاصمة والمقاطعات وافتتاح مدرسة للبنات عام 1927، علاوة على تشجيع المقتدرين على بناء المدارس أو التبرع في سبيل العلم.
بعد تخرجه في معهد المعلمين عمل الفارسي في سلك التدريس، حيث عين مدرساً في المدارس الابتدائية الحكومية في زنجبار سنة 1933 قبل أن يتدرج في سلك التعليم ويصبح مفتشاً تربوياً عاماً للعلوم الإسلامية، فمديراً للأكاديمية الإسلامية، فمديراً للمدرسة العربية في الفترة من عام 1947 إلى 1952، وهي من الفترات الخصبة في حياته التي تخللها تفرغه لدراسة العلوم الشرعية ونشر اللغة العربية وتفسير القرآن الكريم ووضع المؤلفات التاريخية، وتقديم برامج إسلامية توعوية من إذاعتي زنجبار وممباسا.
بعد ذلك عمل رئيساً لتحرير جريدة «الفلق»، التي نشر فيها العديد من قصائده الشعرية ومقالاته النثرية، علماً بأن هذه الجريدة تأسست سنة 1929، واستمرت في الصدور 35 عاماً، وكانت من أبرز صحف زنجبار تأثيراً وتغطية للأحداث المحلية والعالمية.
وهكذا ظل الرجل يعمل مذاك في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة سعيداً بدعم وثقة سلطانه، وهانئاً بما كانت تعيشه بلاده من سلام واستقرار وازدهار في مختلف المجالات. لكن في أكتوبر 1960 توفي السلطان خليفة بن حارب، فخلفه ابنه السلطان عبدالله بن خليفة بن حارب، الذي توفي في يوليو 1963 ليخلفه ابنه وولي عهده السلطان جمشيد بن عبدالله.
وفي عهد هذا الأخير، وتحديداً في ديسمبر 1963 حصلت زنجبار على استقلالها من بريطانيا، وفي العام التالي وقع انقلاب الأفارقة الشيوعيين الدموي بقيادة عبيد كرومي ضد الحكم الملكي الدستوري العربي العماني، وهي الواقعة التي حولت سلطنة زنجبار إلى جمهورية، ومن ثم إقليماً متحداً مع جمهورية تنجانيقا ضمن دولة تنزانيا الحالية في سنة 1966.
لم يستطع الفارسي التأقلم مع الأوضاع السياسية الجديدة وسياسات النظام الجديد المعادية لأهله وعشيرته من العرب العمانيين فتقدم باستقالته وغادر زنجبار إلى كينيا المجاورة في عام 1964.
وهناك، وتحديداً في عام 1967 لم يجد الرئيس الكيني الأسبق «جومو كينياتا» شخصاً أفضل من الفارسي لتولي منصب قاضي قضاة كينيا، بسبب مؤهلاته وإجادته الإنجليزية والعربية والسواحلية وبعض اللهجات الأفريقية المحلية، علاوة على شيء من الهندية التي تعلمها من خلال الاحتكاك داخل مجتمع زنجبار المتعدد ثقافياً وعرقياً ودينياً، فقبل الفارسي العرض وتولى القضاء وعاش في كينيا مذاك وحتى العام 1981 حينما قرر العودة إلى بلاد أجداده العرب في سلطنة عمان، التي احتضنته كغيره من عرب زنجبار الهاربين من وحشية الشيرازيين الأفارقة ومذابحهم.
وفي عمان عاش الفارسي معززاً مكرماً إلى أن حانت منيته بمسقط في السنة التالية لعودته (1982)، فووري الثرى هناك. وبهذا انطوت صفحة أحد العلماء والقضاة العمانيين الذين أسهموا بنصيب وافر في الحركة العلمية والتربوية والصحافية في ساحل شرق أفريقيا خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
من أهم أعمال الفارسي ومآثره قيامه بترجمة وتفسير القرآن الكريم إلى اللغة السواحلية، وهي الترجمة غير المسبوقة التي حفظت لمسلمي شرق أفريقيا من المتحدثين بالسواحلية دينهم وساعدتهم في فهم أفضل لعقيدتهم. وقد ساعده على تنفيذ هذه المهمة الصعبة إحاطته بعدد من العلوم، كالتفسير والتاريخ والفقه، وتمكنه التام من ناصية علوم اللغة المترجم منها والمترجم إليها على حد سواء.
والمعروف أن الإسلام انتشر في شرق أفريقيا سلمياً بفضل المهاجرين العرب الأوائل من عمان وحضرموت وعدن وبلاد فارس، وما تميزوا به من أخلاق كريمة ومعاملة طيبة للآخر، ومعه انتشرت اللغة العربية، التي تعد العنصر الأهم للثقافة الإسلامية، فدخلت أصواتها وكلماتها وحروفها الأبجدية اللغة السواحلية، التي ظلت لفترة طويلة تكتب بحروف عربية قبل تحولها إلى اللاتينية، إلى درجة أنها وصفت بأنها «لغة عربية تأفرقت أو لغة أفريقية تعربت»، طبقاً للدكتور علي سعيد سنكر، من جامعة عبدالرحمن سميط في زنجبار.
وهكذا توغلت اللغة العربية في أوساط المجتمع الزنجباري حتى أصبحت لغة رسمية بجانب أختها اللغة السواحلية، بل كانت خطب السلاطين والزعماء والدعاة تلقى بالعربية، وكانت أكثر الصحف والمجلات تكتب بها أيضاً، خصوصاً وأن سلاطين زنجبار العمانيين حرصوا إبان حكمهم لشرق أفريقيا على تعليم اللغة العربية والدين، فكان لذاك أثره في ترسيخ العربية والإسلام في تلك البلاد.
والجدير بالذكر، في هذا السياق، أنه بعد ثورة الأفارقة على العرب العمانيين، تم إلغاء التعليم الرسمي للغة العربية والدراسات الإسلامية حقداً وعدواناً للعرب وكل ما كان عربياً، ليتغير الوضع قليلاً مع تولي عبود جمبي السلطة في زنجبار سنة 1972، حيث حسن الأخير علاقته بالزنجباريين العرب والدول العربية، وكان من ثمار ذلك أن عاد تعليم اللغة العربية إلى المدارس الحكومية بمناهج حديثة، وانتظام دروس التربية الإسلامية.
وحتى أواخر خمسينيات القرن العشرين لم تكن هناك ترجمة صحيحة وتفسير محكم للقرآن الكريم باللغة السواحلية، فحرم سكان تلك البلاد لسنوات طويلة من فهم القرآن فهماً صحيحاً، حيث إن أول ترجمة كاملة لمعاني كتاب الله بالسواحلية كانت من عمل القسيس «غودفري ديل»، وقد تولت حركة مسيحية نشر ترجمته في لندن سنة 1923. وكان غرضه من الترجمة هو أن ييسر للمبشرين المسيحيين في شرق أفريقيا عملية الاستشهاد بالآيات القرآنية، ودحض معانيها ومراميها في مناظراتهم التنصيرية مع مسلمي تلك الديار.
أما المحاولة الثانية فقد كانت في سنة 1953 حينما طبع الميرزا مبارك أحمد الأحمدي، من جماعة القاديانية، ترجمة للقرآن إلى السواحلية في نيروبي، وكانت هذه الترجمة تحتوي على تحريفات وتبليغات متوافقة مع المذهب القادياني المخالف لمذهب الأفارقة الشافعي.
بعد ذلك جاء الشيخ عبدالله الفارسي ليقدم أول ترجمة صحيحة للقرآن من عمل عالم أفريقي مسلم متمكن من اللغتين العربية والسواحلية، ويسد بذلك نقصاً خطيراً، حيث بدأ الفارسي عمله سنة 1956 وراح يطبعه جزءاً فجزءاً إلى أن بلغ 12 جزءاً في عام 1961.
وفي عام 1969 قامت المؤسسة الإسلامية في نيروبي بطبعه كاملاً في مجلد واحد.ولم يكتفِ الفارسي بذلك، وإنما قام أيضاً بوضع مؤلف خاص يفند فيه أباطيل وتخرصات التفسير القادياني للقرآن، ويبين الأهداف الخبيثة للميرزا مبارك الأحمدي وأتباعه من وراء تقديم ترجمة سواحلية للقرآن.
ومن أعمال الفارسي الأخرى التي يجدر الإشارة إليها كتاب أصدره باللغة الإنجليزية بعنوان «البوسعيديون حكام زنجبار»، وهو كتاب قام بترجمته إلى العربية المترجم العماني المتخصص المرحوم محمد أمين عبدالله بستكي، ويعتبر مرجعاً قيماً لباحثي العلوم التاريخية والعلوم الإنسانية والآثار والجغرافيا؛ لاحتوائه على موضوعات ومعلومات تاريخية مهمة عن طبيعة حكم سلاطين آل بوسعيد لشرق أفريقيا وإنجازاتهم الحضارية وعلاقاتهم واتصالاتهم مع الممالك الأخرى المعاصرة.
عبدالله المدني – صحيفة البيان