الصهاينة من غير اليهود في المجتمعات الغربية

«ليس من الضرورى أن تكون يهوديا لكى تكون صهيونيا». اعتاد الرئيس الأمريكى الحالى على تكرار تصريحات مثل الجملة السابقة، تعبيرا عن دعمه لدولة الاحتلال وإيمانا منه بالمشروع الصهيونى. والمثير فى تصريح جو بايدن أنه يتجاوز الدعم والانحياز التاريخى لمعظم قادة ونخب الغرب لإسرائيل، ليعلن عن نفسه بكل فخر واعتزاز وثقة بأنه صهيونى. والمعروف أن السيد بايدن ثانى رئيس مسيحى كاثوليكى بعد جون كينيدى.

وقد تأثر لوثر فى شبابه بشخصية أحد أصدقاء عمه وأفكاره، هو المفكر المسيحى الألمانى، يوهان روخلين، وكان روخلين دارسا للغة العبرية، ومتعاطفا مع اليهود، ومولعا بالتصوف اليهودى المعروف باسم «كابالا»، وهو الشخص ذاته الذى عارض عام ١٥١٠ أمام الإمبراطور الرومانى فكرة حرق الكتب والتراث اليهودى فى أوروبا، وطالبه بتأسيس كراسى فى الجامعات لتدريس اللغة العبرية. وينظر إليه اليهود بوصفه أحد أبطالهم التاريخيين.
وباقتباس تعبير المفكر والقس، إكرام لمعى، فى كتابه الرصين «اختراق الصهيونية للمسيحية»، فإن جهود روخلين ولوثر وآخرين قد أحدثت تحولا واختراقا للموقف المسيحى التقليدى من اليهود وكراهيتهم فى الأوساط المسيحية. وربما كان لوثر أحد الملهمين التاريخيين لتيار المسيحية الاسترجاعية أو المسيحية الصهيونية، والتى ظهرت أولا فى إنجلترا البروتستانتية فى القرن السابع عشر مشترطة عودة اليهود لـ «أرض الميعاد». وتعتبر الطائفة الإنجيلية البروتستانتية فى الولايات المتحدة امتدادا وتمثيلا حرفيا لهذه الأفكار.

والغريب أن موقف لوثر قد تغير إلى النقيض تماما فى مرحلة متقدمة من حياته عندما كتب رسالة مشهورة بعنوان «عن اليهود وأكاذيبهم» عام ١٥٤٣، وصفهم فى هذه الرسالة بأبشع الصفات، داعيا فيها الأمراء الألمان إلى حرق كتبهم ومعابدهم، وإيقاف حاخاماتهم، بل وقتلهم. وهى النصائح التى نفذتها لاحقا ألمانيا النازية. لقد كتب الكثيرون عن الدوافع التى ربما تكون قد أثرت على فكر لوثر وتسببت فى هذا التحول، ومع ذلك لا أحد يعرف على وجه اليقين أسباب تغير موقف لوثر من اليهود.

يسرد الراحل الرائع الدكتور، عبدالوهاب المسيرى، فى كتابه «الصهيونية والحضارة الغربية» نماذج وأمثلة للعديد من القادة والسياسيين والمفكرين الغربيين الذين كانوا صهاينة أو داعمين للفكر الصهيونى، حتى وإن لم يعلنوا عن ذلك بوضوح مثل الصهيونى جو بايدن ووقاحته. فعلى سبيل المثال اعتبر المسيرى الداهية الاستعمارى نابليون بونابرت صهيونيا، وكذلك فعل المؤرخ الفرنسى باتريس جينيفى صاحب كتاب «بونابرت ١٧٦٩ــ١٨٠٢». فبالإضافة إلى دوره فى تحرير واندماج اليهود فى فرنسا وغيرها من البلاد التى احتلها فى أوروبا خلال القرن التاسع عشر، دعا بونابرت عام ١٧٩٩ وأثناء حصاره لعكا يهود العالم إلى الهجرة إلى فلسطين «أرض أجدادهم» وتأسيس وطن قومى. ويختلف الدارسون على أى حال فى دوافع نابليون الصهيونية لدرجة أن البعض ادعى أن له أصولا يهودية.

وفى مرحلة مبكرة، وقبل نابليون كان هنرى فتش (١٥٥٨ــ١٦٢٥) عضو البرلمان البريطانى، يدعو اليهود للتمسك بـ «حقهم فى الأرض الموعودة»، وطرح مفهوما عرقيا لإسرائيل بدلا من المفهوم الروحى التقليدى. وكان الجنرال الفرنسى فيليب لانجلرى (١٦٥٦ــ١٧١٧) مهووسا بتوطين القبائل اليهودية المبعثرة والتائهة فى العالم. ويعد واردر كريسون (١٧٩٨ــ١٨٦٠) شخصية محورية فى تاريخ الصهيونية، وهو أمريكى من طائفة المرمون، وعين أول قنصل للولايات المتحدة فى فلسطين.أما اللورد البريطانى بالمرستون (١٧٨٤ــ ١٨٦٥) فهو صهيونى آخر غير يهودى، وكان يشغل منصب وزير خارجية بريطانيا أثناء أزمة الباب العالى فى إسطنبول مع محمد على باشا، والى مصر، وقد دعا فى رسالة إلى السلطان العثمانى إنه «إذا عاد أفراد الشعب اليهودى إلى فلسطين» فى حماية السلطنة العثمانية، فإن بريطانيا ستقوم بكبح جماح أى مخططات شريرة قد يقوم بها محمد على أو من سيخلفه فى المستقبل. وكذلك كان اللورد البريطانى أشلى كوبر لورد شافتسبرى السابع (١٨٠١ــ١٨٨٥) صهيونيا مسيحيا عاش فى القرن التاسع عشر نذر حياته لدعم الفكر الصهيونى لأسباب دينية. بينما كان صديقه الدبلوماسى البريطانى لورانس أوليفانت أكثر حماسا وولعا بالصهيونية، فقد سافر إلى فلسطين وشرق الأردن بهدف إنشاء شركة استيطانية لتوطين اليهود. وفى أثناء استيطانيه فلسطين مع زوجته، كان سكرتيره الخاص، نفتالى هرتس إيمبر، مؤلف النشيد الوطنى لدولة إسرائيل.

من الصهاينة غير اليهود الذين ذكرهم المسيرى (جيمس فن) (١٨٠٦ــ١٨٧٢) الذى عمل قنصلا بريطانيا فى القدس. وكان من رواد الدعوة لتوطين اليهود فى فلسطين، وصديقا حميما لليهود، ومتحمسا هو وزوجته للمشروع الصهيونى. ولم يكن السياسى الإيطالى بنديتو مسوولينو (١٨٠٩ــ١٨٨٥)، أقل حماسا، حيث اعتاد زيارة فلسطين، وحرر كتابا بعنوان «القدس والشعب العبرانى». ومن أسرة تشرشل الشهيرة، كان الضابط الإنجليزى تشارلز تشرشل (١٨٠٧ــ١٨٦٩) صهيونيا حتى النخاع. ومن الأقوال التى تنسب إليه عند لقائه فى مالطا بالسير مونتفيورى الدبلوماسى البريطانى «إنه فى غاية السعادة بأن الأقدار قد رتبت هذا اللقاء فى هذا المكان بالذات» فى إشارة إلى فرسان الحملات الصليبية الذين توجهوا إلى فلسطين انطلاقا من مالطا. وهناك أيضا سى. آر. كوندر (١٨٨٤ــ١٩١٠) المؤرخ ومؤسس صندوق استكشاف فلسطين الذى تبنى الفكر الصهيونى لأهداف صليبية استعمارية، فقد أشار فى كتابه عن تاريخ المملكة اللاتينية فى القدس إن الإمبريالية الغربية قد نجحت فيما أخفقت فيه الحملات الصليبية. وهو موقف مشابه لصهيونى غير يهودى آخر وهو لويد جورج (١٨٦٣ــ١٩٤٥) رئيس الوزراء البريطانى عندما صرح بأن الجنرال اللنبى شن وربح آخر الحملات الصليبية.وتطول قائمة الصهاينة غير اليهود فى المجتمعات الغربية التى أوردها الراحل الدكتور المسيرى فى موسوعته الشهيرة الصادرة عن دار الشروق، ناهينا عن المؤسسات والكنائس الداعمة خاصة فى الولايات المتحدة، حيث ولدت المسيحية الصهيونية من رحم البروتستانتية عامة، ومن رحم الفكر الإنجيلى الاسترجاعى تحديدا. ويكفى أن تشاهد برامج الإنجيليين لتدرك حجم تأثير الفكر الصهيونى على عقائدهم وأفكارهم. ومن أهم رموز هذا الاتجاه فى الولايات المتحدة بات روبرتسون وجيرى فالويل.

بالتأكيد يمكن تفهم رؤية المسيرى بأن بعض مؤيدى الفكر الصهيونى فى أوروبا كانوا من كارهى اليهود، ويهدفون من خلال مساعدتهم لإنشاء وطن قومى للتخلص منهم. فعلى سبيل المثال يذكر أن أشهر شخصية فى تاريخ الصهيونية هو اللورد بلفور الذى ارتبط اسمه بالوعد المشئوم كان يمقت اليهود ويكرههم، وكذلك كان مارك سايكس أحد صانعى اتفاقية سايكس ــ بيكو الشهيرة. وبعض الصهاينة من غير اليهود فى المجتمعات الغربية أدركوهم بوصفهم جماعات وظيفية ووسيلة يمكن استغلالها. ولكن ليس من المنطق استبعاد الدوافع الأخرى التى تجعل من بعض الأشخاص صهاينة أو مؤمنين بالفكر الصهيونى.ويمكننا بالتأكيد الاتفاق مع الدكتور المسيرى فى أن الصهيونية نتاج الثقافة الغربية الاستعمارية الاستيطانية، وأنها قد استغلت الدين لأسباب سياسية وقومية وأن بها تيارا علمانيا وتيارا روحيا. ولكن لا يمكننا ادعاء أنها فى مجملها حركة علمانية لا دينية، فهذا تعميم غير دقيق فى ظنى، فأصول الصهيونية واضحة فى اليهودية وفى العهد القديم والتلمود وغيرها من المصادر المؤسسة للفكر الصهيونى. وربما يكون فى الكتاب المرجعى للدكتور اسماعيل راجى الفاروقى عن هذا الموضوع، وكتاب «أيديولوجيا تفسير العهد القديم» للدكتور أحمد عبدالمقصود الجندى، إجابات واضحة وشافية عن علاقة الصهيونية بالدين اليهودى.

خلاصة القول، إن انتشار الفكر الصهيونى بين غير اليهود فى المجتمعات الغربية ظاهرة قديمة ترجع على الأقل إلى عصر الإصلاح الدينى وظهور المذهب البروتستانتى فى القرن السادس عشر. وتتفاوت دوافع مؤيدى وداعمى الفكر والمشروع الصهيونى بين الدوافع الاستعمارية والاستراتيجية. ولا يمكن إغفال الدوافع الدينية والثقافية خاصة فى صفوف الأصولية المسيحية البروتستانتية. وربما كان التعاطف مع معاناة اليهود فى أوروبا والشعور بالذنب لدى بعض الغربيين جعل منهم صهاينة أكثر من بعض الصهاينة اليهود. وفى ظنى أن دور اللوبيات الصهيونية فى شراء السياسيين وصناع القرار بشكل ممنهج قد ساهم فى تفشى الظاهرة. وفى النهاية لا أدعى أن ظاهرة الصهاينة غير اليهود مقصورة على الثقافة الغربية فقط، فيمكن أن نجدهم فى الشرق والغرب، بل إن بعضهم عاشوا ومازالوا يعيشون بيننا فى بلاد العرب والمسلمين.

يحي عبدالمبدي محمد – الشروق نيوز

Exit mobile version