هل كان الغناء حقًا بكل هذه الأهمية، ما يجعل كونفوشيوس يقول: لا يهمنى من يحكم شعبى طالما أنا من يكتب أغانيه، أو كما أبدع عمنا بيرم التونسى الذى طرح مقايضة فادحة حين قال: غنيلى شوى شوى غنيلى وخد عينى، وكذلك الوالد فؤاد حداد «مفيش فى الأغانى كدا ومش كدا».
أو ما أفصح عنه عصام عبدالله ببساطة بليغة «سحر المغنى»، لطالما كانت الأغنية حاضرة فى كل المناسبات، ولهذا كله استسلمت أخيرًا لفكرة جمعها فى كتاب ربما يوفر للباحث والدارس مادة تجذبه لوضع نصوصنا المغناة تحت مجهر النقد، الذى من شأنه مساعدتنا فى اكتشاف الجماليات والنواقص، ومن ثم العمل على تطوير أدواتنا. أثناء محاولاتى فى جمع نصوص الأغانى، تداعت إلى ذهنى ذكريات وددت لو أحررها من الأسر علها تصير وثيقة أو شهادة على عصر مضى، زمان وقبل انهيار صناعة الكاسيت فى مصر، كانت المجلات المهتمة بعالم الموسيقى والغناء تجارة رائجة ومجزية، فى نهاية كل عام كان هناك إصدار خاص يحتفل بكل عناصر الأغنية، ويمنح جوائز تقديرية لمن يراهم الأفضل، والحمدلله كعادتى لم أفز أبدًا، ولم يرد ذكرى من أساسه، فقد كانت الجوائز تمنح بمعيار الكم، ففلان حصل على المركز الأول لأنه كتب ٤٥ أغنية، ويليه علان بـ٤٤ أغنية وهكذا، بينما كان لا يزيد رصيدى على ٥ أغانٍ، وغالبًا أقل «ماكنتش باصحى م النوم أكتب أغانى، باكتب بس لما مالقاش فى الأغانى اللى يوصف حالتى، وأعتقد إن هو ده الفرق بين كاتب أغانٍ وبين شاعر يكتب الأغنية أحيانًا وده موضوع حنتكلم عنه بالتفصيل بعدين».
ولأنى من النوع الذى لا يطرق أبواب شركات الإنتاج، ولا يطارد مطربين، اشتغلت بشروطى ورهاناتى التى أؤمن بها وقتها، فكانت تحدث مفارقات لطيفة من وقت لآخر، أذكر مثلًا عندما هاتفنى أحدهم يطلب منى كلمات أغنية لفنانة كبيرة، واتفقنا على موعد وقد كان، ذهبت وليس فى يدى غير باقة ورد، ظلت المطربة تنتظر أن أُخرج حتى ولو ورقة من جيبى لأقرؤها ولم يحدث.
قالت: إنت سبت دفتر الأغانى فى العربية، قلت: لا أملك سيارة، فلما يئست سألتنى إن كنت أحفظ شيئًا، فطمأنتها وأضفت: كل شىء موجود، هذه فقط جلسة تعارف، أريد أن أسمعك بعيدًا عن الآلات وتقنيات الأجهزة، غنت وتجلت وأسمعتنى سحرًا لم أعثر عليه بعدها، تحمست بدورى وأسمعتها نصًا أعجبها، وطلبت المزيد وكانت تستحسن ما أقول، غير أنها فاجأتنى نهاية السهرة، وقالت: أنا أريد أغنية مثل أغنيتى الأخيرة، سمعتها بالطبع فقد حققت- ولا تزال- نجاحًا غير مسبوق، قلت بسيطة، حضرتك أطلبى ممن صنعوها واحدة تانية، أنا هنا لنصنع معًا شيئًا جديدًا ومختلفًا، يضيف لحضرتك ويضيف لى، ثم اعتذرت بعد أن شكرت لطفها البالغ وانصرفت حزينًا، فقد خسرت للتو فرصة قد لا تتكرر، ولكن ألم نربح من الخسارات أحيانًا.
ابراهيم عبدالفتاح – جريدة الدستور