السفير عبد الله الأزرق يكتب:
📍المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (47)
لندن (10)
ومن عجائب ما لاقيت من زمني، وأنا بلندن، أنني شهِدْتُ وقائع تثير السخرية، وربما الضحك والتهكم..
ومن بينها أن “جمعية الحمار” Donkey Society البريطانية راسلتني رسمياً بخطاب موقع باسم أحد قياداتها، وهو عضو بمجلس العموم؛ واحتجت على وضع الحمير في دارفور، وهي تلوم الحكومة السودانية لعدم توفير الحماية والرعاية لحمير دارفور!!
وطلب مني السيد عضو العموم المحترم أن أنقل احتجاجها ذاك لحكومتي، لتولي الحمير ما تستحقه من عناية ورعاية!!!
قد يظن البعض أن وجود “جمعية الحمار” البريطانية هذه مجرد مزحة!!
ولكنها ليست كذلك.
إذ توجد بالفعل منظمة كهذي.. بل إن لها نشاطاً، وتدعو البريطانيين في إعلاناتها إلى “تبني حمار” قائلة لهم: Adopt a Donkey؛ ولها ملاذات Sanctuary للحمير، وتقول: إن لها مستشفى للحمير وأطباء بيطريين، وتتولى علاج الحمير.
وبإرجاع النظر كرتين، نتذكر أن لدى الخواجات جمعيات شبيهة، تُعنى بالحيوانات أكثر من عنايتها بالإنسان.
فجمعيات حماية الحيتان أو الباندا أو الكلاب، تقيم الدنيا ولا تقعدها إن مات كلب مثلاً، لكنها لا تنزعج من تصريح مادلين أولبرايت حين قالت في برنامج “ستون دقيقة” الأميركي الشهير، عام 1996، عن موت نصف مليون طفل عراقي جراء العقوبات وحصار العراق:
إن ذلك ثمن مناسب ومستحق من أجل الديمقراطية في العراق:
“but the price, we think, the price is worth it.”
وهكذا فتحت قضية دارفور الأبواب لكل من يريد أن يسترزق من مآسيها.
وبالطبع حفظت المكاتبة وضربت عن الموضوع صفحاً، ولم أرسله للخارجية؛ فيكفي الخارجية ما هي مشغولة به.
ومن بين أبواب الشر التي فتحتها علينا مشكلة دارفور؛ هو تدفق الألوف من غرب أفريقيا، وتسلل بعضهم لأوروبا طلباً للجوء بحجة أنه من دارفور.
في مرة شكّت الشرطة البريطانية في سودانية أحد هؤلاء الأفارقة، وجاءت به للسفارة لتتأكد. وسقط في أول سؤال وذلك حين سأله القنصل عمر حامد عن بلده في دارفور فقال: إنه دارفوري من جوبا!!!
وذكرني هذا بواقعة مشابهة في جنيف؛ وذلك أن المشتبه بسودانيته قال لي: إنه يسكن في جوبا، لكنه يحضر كل بضعة أيام للخرطوم بواسطة دراجته!!!
ومما أذكره عن أيام لندن، أن البلدية فرضت ما سمته رسوم ازدحامCongestion Charges، على كل سيارة تدخل وسط لندن.
واحتجت أغلبية السفارات على هذا الإجراء كونه ضريبة، وهذا يناقض اتفاقية فييينا للعلاقات الدبلوماسية التي تعفي الدبلوماسيين والسفارات من الضرائب.
وكنوع من الضغط على السفارات لإخضاعها حتى تدفع تلك الضرائب كانت تنشر وتُعلن أسماء السفارات المتمردة على الضريبة.
وكانت السفارة السودانية من بين تلك السفارات المتمردة.
واستغلت المعارضة السودانية ذلك الإعلان، فروّجت أن السفارة السودانية لا تلتزم بقوانين المرور.
فيما عدا ذلك، كُنّا نُحمّل السائق الذي تفرض على سيارته غرامة، لخرق صريح لقوانين المرور الأخرى، تكلفة ذلك الخرق.
ومن طرائف خروقات الدبلوماسيين لقوانين المرور؛ أن دبلوماسيي دولة أفريقية في لندن، كانوا يستغلون الحصانة التي تتمتع بها سياراتهم فكانوا يوقفونها حيث شاءوا.. ولما تكاثرت خروقاتهم اضطّرت الشرطة البريطانية لسحبها.
لكن الشرطة في بلد أولئك الدبلوماسيين انتقمت من الدبلوماسيين البريطانيين في عاصمتها؛ فأعدت شارة مرور متحركة مكتوب عليها “ممنوع الوقوف” No Parking؛ وما أن يغادر الدبلوماسي سيارته حتى تضع شرطة ذلك البلد شارة المرور المتحركة تلك أمام سيارته وتفرض عليه غرامة.. وأمام تكاثر غرامات الشارات المتحركة لم تملك الشرطة البريطانية إلا الخضوع، والكف عن مطاردة دبلوماسيي ذلك البلد الأفريقي في لندن!!!
ولخدمة أهلنا ما كنا نَقْصُر عملنا في السفارة على ساعات عمل رسمية، أو التقيّد بعطلة نهاية الأسبوع؛ فكان الدبلوماسيون يفتحون السفارة في العطل لقضاء معاملة قنصلية طارئة؛ مثل تأشيرة دخول لسوداني مجنس توفي أحد أقاربه بالسودان.
وكان (عم عثمان سفارة) مسؤولاً عن إجراءات الجنائز، وكان رحمه الله يفعل ذلك في أيام العطل، وكان يقول لي مازحاً:
“السودانيين ديل ما بعرفوا يموتوا إلاّ في الويك إند”
ورغم كل شيئ لم يسلم العاملون في السفارة من النقد “والنِقّة”.
وكثيراً ما كنت أردد:
“أقِلّوا عَلَيْهِم لا أبَا لأبِيكُمُو من اللّومِ
أو سُدّوا المكان الذي سَدّوا”
من ناحية أخرى، فإن ببريطانيا نَفر من خِيرة السودانيين وصَفْوَتِهم، ولكن صوت المعارضين هو الأعلى، فبدا كأنهم الغالبية، واختطفوا الجالية.. وكأن هؤلاء الأفاضل يتحسرون على وجودهم بين أولئك المهرجين، متمثلين قول أبي الطيب:
“وما أنا مِنهُمُ بالعَيشِ فيهِم ولكن مَعدِنُ الذَهَبِ الرَغامُ”
وتحضرني هنا دعوة وجهها لي بروفسر بقادي -وهو من بين أولئك الكرام – لحضور زواج ابنه.
وبروفسور بقادي عديل السيد الصادق المهدي.
وفي يوم الزواج أُجلست في الطاولة التي فيها السيد الصادق المهدي، ودكتور على الحاج وعدد من قيادات المعارضة.
ولما رأى على الحاج عدد وتنوع تمثيل المعارضين قال مازحاً: حقو نُعلِن حكومة منفى؛ فقال له السيد المهدي: لكن السفير!!! وعندها تدخلت قائلاً:
إنني لا أمانع، شريطة أن أكون رئيسها!!!
وعند نهاية الجلسة دعوت السيد المهدي لوجبة في منزل السفير فاستجاب على الفور. وعندما دعوت على الحاج قال لي بفظاظة: لا، ما ممكن!!!
وتذكرت الحاردلو حين قال:
“كان لي المهدي القِبيل ولداً قَدَل في عزة
حَتْ ود البَصِير سَوّانَا في …….. وِزّة”
وعجبت؛ لأنني أعرف علي الحاج معرفة وثيقة منذ 1992، حين كنت دبلوماسياً في نيروبي.. لكن يبدو أنه رأى أن معارضة نظام الحكم تعني قطع علاقاته مع ممثليه!!!
وبالفعل جاءني السيد المهدي وكانت جلسة طيبة.
ومن أسفٍ أن المعارضين السودانيين أوقَعُوا أنفسهم في بَرَاثِن أخْبَث المنظمات.
وكانت منظمات تتّخِذُ لنفسها أسماء بريئة، تُوحِي بالإنسانية لتغليف روح الهيمنة والإخضاع للشعوب الحرة. وذلك مثل منظمة “صندوق الرعاية” Aegis Trust؛ ومنظمة “شَنْ السلام” Waging Peace.
كان المعارضون يتكسبون من تلك المنظمات عبر منظمات يقيمونها؛ وكانت المنظمات الراعية لهم تتخذهم وسيلة إخضاع وإضعاف للحكومة السودانية؛ ورضوا هم بذلك الدور.
السفير عبد الله الأزرق