السفير عبد الله الأزرق يكتب:
📍المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (46)
لندن (9)
في فبراير 2012 وصلتني دعوة بلاط سنت جيمسز Court of St James’s، وهو البلاط الرسمي للملكية البريطانية لحضور حفل زواج الأمير وليم، ابن الملك الحالي، وحفيد الملكة أليزابث (اليصابات) الذي سيقام في 29 أبريل 2013.
وحددت الدعوة أن تكون الملابس إما الزي الوطني أو تلك البدلة ذات الذنب!!! وبالطبع اخترت زينا القومي، لاعتبارات الاعتداد بما يرمز لنا، وأيضاً لأنه سيعطيني تَمَيّزاً.
ويسمى البلاط الملكي البريطاني ببلاط سانت جيمسز St James’s Court (لا بد من نطق the possessive s) رغم أن الملكة تقيم في قصر بكنغهام، ورغم أن ذلك القصر لم تبقَ منه إلاّ بوابته التاريخية.
قُدّمت الدعوة لألف وتسعمائة شخص من بريطانيا وأنحاء العالم.
وقبل يوم من الزواج سُحِبت دعوة السفير السوري؛ نظراً لاحتجاج المعارضة وجماعات حقوق الإنسان البريطانيتين ، قائلين أن نظامه يقمع السوريين.
ورغم صحة توصيفهم لما جرى من قِبل النظام السوري ؛ إلاّ أن تصرفهم ذاك لم يكن إلاّ نفاقاً.. فهم يأبهون لحقوق الإنسان بصورة انتقائية.
وأعجبني أن الدعوة لم تقدم لتوني بلير، الذي لا تُحبّه الملكة، ولا أحبَه أنا؛ لِكَذِبِهِ.
وقبل يوم الزواج طُلب منا أن نترك سياراتنا قرب ملعب أرسنال. وبالفعل رُحل السفراء بحافلات إلى كاتدرائية ويستمنستر Westminster Abbey .
وظللنا في انتظار الملكة لأكثر من ساعتين!!
وكذلك يفعل الإنجليز في كل مناسبة تحضرها الملكة؛ ويفعلون هذا من باب تعظيمها.
تقيم الأسرة المالكة كل مناسبتها الرسمية الكبيرة في كاتدرائية ويستمنستر التي افتتحت في 1065 ميلادية..
وهكذا تقام مناسبات زواج الأسرة المالكة ومراسم تتويج الملوك، والجنائز .
وغالب تلك المراسم دينية.
ومن بين المراسم الدينية التي أقيمت للملكة اليزابيث في الكاتدرائية إبان تنصيبها ( 2 يونيو 1953 ) أنهم أدخلوها خيمة مؤقتة وعرّوها، ومسحها كبار الأساقفة بما يُسمى (في الأرثوذكسية) زيت الميرون المقدس؛ حيث مسحوا الأجزاء السرية من جسدها، لمنع الشيطان من الدخول عبر منافذ جسدها!!!
وهذا من بيِّن الفحش الذي أدخله الرهبان في دين سيدنا عيسى، عليه السلام، وما كُتب عليهم.
وبعد أكثر من شهر أرسل ولي العهد (والد العريس) هدية لكل السفراء في صندوق ملكي عليه شعار ولي العهد رمزاً لشكره لنا على حضور زواج ابنه. وبعد فتح عدة صناديق فاخرة المظهر ، وجدنا أن الهدية كانت قطعة كيك. وأصر أحمد ابني على أخذ مقاساتها فوجدها 7سنتميتر طولاً، 5 عرضاً، ثم 3 ارتفاعاً!! وذاقها فلم يُسِغْهَا ، وقال: إنها مُرّة!!!
وحقيقة، فإن الدين لا يقتصر على الجزء المراسمي في نظام الحكم في بريطانيا، التي تزعم أنها علمانية.
فالملك يرأس الكنيسة الإنجليكانية.
ويعيِّن كبير الأساقفة بتوصية من رئيس الحكومة.
ويشارك اللوردات الروحيون Lords Spiritual في نقاش وإجازة التشريعات التي تحكم الدولة في الغرفة العليا للبرلمان the Upper Chamber وهي مجلس اللوردات.
ونصَّ قسم التنصيب للملك تشارلز على الآتي:
“أنا، تشارلز، أقف بإخلاص وبصدق أمام الله، وأشهد وأعلن أنني بروتستانتي مخلص، وأنني وفقًا للقصد الحقيقي للتشريعات التي تضمن الخلافة البروتستانتية على العرش، سوف أُؤيد وأحافظ على التشريعات المذكورة بأفضل ما في وسعي وفقًا للقانون”.
ويحضر التنصيب اللوردات الروحانيين.
ويوقع على بيان التنصيب كبير أساقفة كنتربري.
وحفل التنصيب مناسبة دينية في جوهرها.
وظلت بريطانيا تحافظ على مراسم حفل التنصيب لألف عام.
وشهدت ويستمنستر تتويج كل ملوك بريطانيا منذ عام 1066م في احتفال ديني يضفي القداسة على الملك الجديد، الذي يحمل لقبي “حامي العقيدة” و”الحاكم الأعلى لكنيسة إنجلترا”.
وظل الصليب أهم رمز في علم المملكة (كما هو في أعلام دول أوروبية عديدة).
يحدث كل هذا رغم أن المسيحية نفسها انحسر تأثيرها اجتماعياً في بريطانيا.
وإلى جانب مجلسي العموم واللوردات، فإن هناك مجلساً أقرب إلى السرية للتاج البريطاني، وهو المجلس الملكي الخاص (الذي تطلق عليه تسمية: Privy council).
ويتمتع بعضوية المجلس جميع أعضاء الحكومة، سواء السابقين أو المستمرين في أداء مهامهم، وأساقفة كانتربري ويورك، إضافة إلى أربعة وعشرين أسقفاً من الكنيسة الرسمية في إنجلترا established church of England، والناطق باسم مجلس العموم، وقانونيون (قضاة) من مجلس اللوردات Law Lords.
ويصدر المجلس السري هذا مراسيم ملكية Orders in Council متمتعة بقوة القوانين.. وتعد لجنته القانونية منذ عام 1833م بمثابة محكمة استئناف لمناطق السيادة البريطانية وراء البحار (في أنغيلا وبرمودا وجبل طارق على سبيل المثال).
هؤلاء هم الملأ The Establishment.
وهذا نظام لا يخلو من غرابة؛ ويَشِي بباطنية ما.
ورغم ما ذكرنا، فإن بريطانيا تعترض على أي تأثير ديني للحكم في السودان؛ بتأثير الإسلاموفوبيا المسيطرة على الخارجية والأجهزة الأمنية والبرلمان والإعلام.
ويعمل الموالون لهم مِنّا (وهم يجهلون تطورات نظم الحكم الغربية) في السودان على فرض علمانية متطرفة Militant Secularism في مجتمع يقدس الإسلام!!
ولو أنهم اقتدوا ببعض ما يطبق في بريطانيا لما بلغ بهم التطرف حد رفض النص على دين الدولة أو وضع البسملة في وثائق رسمية.
المؤسف أنه خلال فترتي في بريطانيا، كانت منظمات كوَّنها معارضون تروِّج إلى إن الدولة السودانية تسمح بالختان الفرعوني، رغم أن قوانيننا تجرّمه منذ عشرات السنين!!
كما تروِّج إلى أن الجيش يمارس اغتصاب النساء!! وقد وجدت في الحركات الدارفورية ضالتها، فتفاقمت الدعاية الكاذبة في هذا الصدد.
وقد لاحظتُ تطابقاً عجيباً مُرِيباً في الروايات الإعلامية عن الاغتصاب؛ إذ تذكر كل المصادر الإعلامية في بريطانيا – وفي دول غربية أخرى- أن كل النساء اللائي يُدّعى أنهن اغتصبن، أنهن تعرضن للاغتصاب وهنّ “يجمعن الحطب”!!
هكذا في كل التقارير الإعلامية!!!
في مايو 2014 نشبت مشكلة بيني والسلطة القضائية في السودان حول تصريح لي لعدد من الصحف البريطانية وقنوات فضائية حول سيدة تسمى مريم إبراهيم، كانت اتُهمت بالردة؛ وحكمت عليها محكمة ابتدائية بالإعدام.. وانفجرت حملة إعلامية ضارية.. وكنت خارجاً من عملية قلب مفتوح قبل شهر.
ورغم ذلك جابهت الإعلام بأن ما صدر كان حكماً ابتدائياً؛ وأنني أتوقع أن تبرأ تلك السيدة في مرحلة الاستئناف، بناءً على أن الدستور – وهو القانون الأعلى في البلاد – نصّ على حرية الاعتقاد والدين.
لكن الصحافة السودانية اجتزأت حديثي الذي كان بالإنجليزي لعدة صحف وترجمت منه فقط أنني قلت: “السيدة سيتم إطلاق سراحها خلال أيام، وفقا لإجراءات قانونية عبر السلطة القضائية ووزارة العدل” دون إشارة للحيثيات التي ذكرتها، وكذلك قولي: “إنني أتوقع”.
فثارت ثائرة القضائية واتهمتني بالتدخل في الأحكام القضائية؛ وهذا ما لم أعنيه، وأنا الذي أُكِنّ توقيراً وإجلالاً لقضاتنا؛ ولم يُبنَ غضبها على حقيقة ما صرحت به حرفياً، وإنما بناءً على ما اجتزأته الصحافة السودانية بكل نقصه.
وبالفعل قضت محكمة الاستئناف بإطلاق سراح السيدة بناءً على ما نصّ عليه الدستور السوداني.
واستغلت المعارضة قصة مريم، واتّبَعَت ما قاله ديفيد كميرون، الذي وصف السودان بالهمجية، حذو القذة بالقذة.
حرضوا كل المنظمات ضد السودان حتى بعد إطلاق سراح المرأة بقرار قضائي.. وانهمرت علينا بيانات الإدانة من كل فجٍ عميق.
وهجمت علينا هجوم ضِباعٍ جائعةٍ مسعورة!!!
السفير عبد الله الأزرق