من أين جاء هذا الحميدتي؟ (1-2)
عبد الله علي إبراهيم
قال الروائي السوداني الطيب صالح “من أين جاء هؤلاء الناس؟” حين راعه من نظام “الإنقاذ” خروقه لحقوق الإنسان لدى توليه الحكم في السودان عام 1989. ولاحق السؤال النظام كاللعنة لصدوره عن سادن للروحية السودانية.
ويقف كثير من الناس أمام ما راعهم من حرب الدعم السريع الناشبة وقساوتها ليسألوا “من أين جاء هؤلاء الناس؟” ومع ذلك فالسؤال عن هوية قوم “الدعم السريع” مكرر، فقد طرأ ذلك السؤال للناس حيال ما ارتكبه الـ “جنجويد”، الطبعة الأولى لـ “الدعم السريع” من مقاتل في دارفور خلال منتصف العقد الأول من القرن. وتفرق الناس في الإجابة عن السؤال كل في شرط زمانه ومصالحه، فرأى المعارضون لنظام “”الإنقاذ”” يومها فيهم مخلباً للنظام لإقامة حزام أمني عربي إسلامي يخلي به دارفور من جماعاتها الأفريقية (“الزرقة” في المصطلح المحلي). ومن رأي الأكاديمي والقيادي بحركة “العدل والمساواة” المسلحة عبدالله عثمان التوم أن الـ “جنجويد” محاولة لاستئصال شعب دارفور الأصيل (الأفريقي) واستلاب أرضه مدججة بالأيديولوجية الاستعلائية العربية. بينما لم ير مؤيدو النظام غضاضة في الـ “جنجويد” طالما حاربوا تمرد حركات دارفور المسلحة الناهضة لإسقاط “الإنقاذ”.
كان ذلك في الدورة الأولى، أما في الدورة الحالية فأنصار “الإنقاذ” المبادة رأوا في الدعم السريع مرتزقة من الساحل الأفريقي لتقويض الكيان السوداني بينما يرى كثير من خصومهم التاريخيين، ممن سبق لهم التعريض بالـ “جنجويد” كمرتزقة في خدمة “الإنقاذ” كما رأينا، أنهم سودانيون مستحقون لرأيهم وموقفهم مهما كان الرأي فيهم.
من رأي المؤرخ للسودان دوقلاس جونسون أن ما يعيب الكتابة عن السودان هو تركيزها على سياسات الدولة المركزية غاضة الطرف عن الأقاليم وسياساتها المحلية. فنجد الكتابات تحمل الرئيس جعفر نميري (1969 – 1985) مثلاً وزر نقض “اتفاق أديس أبابا” الذي تواثق بها مع قومي جنوب السودان عام 1972 بعد عقد من توقيعه بغير اعتبار منها للخلاف الجنوبي – الجنوبي الذي كان محرضاً كبيراً على النقض. فإذا اشتكت الأقاليم من التهميش من المركز زادتها الكتابة القاصرة على المركز في المسألة السودانية تهميشاً، فصارت الأقاليم في التهميش المركب.
فواضح أن الإجابة في دوائر الصفوة عن سؤال “من أين جاء هؤلاء؟”، سواء للـ “جنجويد” أو “الدعم السريع”، أنهم جماعة مرتزقة في الغالب وظفها مركز الدولة لإماطة أذى المعارضة عن طريق مشروع له. ولا اعتبا فيها للسياسات الإقليمية والمحلية التي تولدت منها هذه الظواهر.
ونبهت الصحافية والسينمائية جولي فلنت باكراً في كتابها “الحرب الأخرى: حروب العرب البينية في دارفور” (2010) إلى أن الطريق لفهم الظواهر مثل الـ “جنجويد” ربما ساقنا إلى الإحاطة بالسياسات المحلية قبل أن تسقط في حبائل الدولة المركزية، كما يذهب الناس في فهمها. وأهم ما خرجت به في كتابها أن العرب الذين ارتكبوا الجرائم بحق أفارقة دارفور خدمة لنظام “الإنقاذ” حتى اتهموا بـ “التطهير الإثني”، كانوا في الأثناء قاتلوا بعضهم بعضاً طويلاً وبضراوة ودموية، فعادت فلنت في كتابها إلى الجفاف والتصحر الذي ضرب شمال دارفور كجزء من الساحل الأفريقي خلال السبعينيات والثمانينيات. وذكرت كيف زعزعت موجات الجفاف المتلاحقة تلك أول ما زعزعت الأبالة (رعاة الإبل) العرب في شمال دارفور من قبائل منسوبة لشعب الرزيقات الذي كثيره مع ذلك من رعاة البقر (بقارة) في جنوب دارفور. ونكبت تلك البادية الشمالية في دارفور فلم تعد دارهم صالحة للعيش فيها. وسعى أبالتها يطلبون رزقاً في الأرض وبغوا.
ولما انسدت أمامهم سبل العيش أرادوا تفريج محنتهم بترحالهم التقليدي جنوباً لترعى سعيتهم كما تعودت في مزارع الفور، من الزرقة ومن تسمت بهم دارفور نفسها، حتى بلوغهم جنوب دارفور موطن أهلهم البقارة. وامتنع عليهم ذلك الرزق البديل لسببين. وكان السبب الأول هو زيادة السكان والسعية زيادة سعّرت الصراع على الموارد المحدودة في الجهات التي قصدوها. وكان السبب الآخر هو حيلولة بـ “زرائب الهواء” بينهم وبين الرعي في زرع المزارعين بعد حصاده. وهذه الزرائب هي ما أخذ يبنيه الفور والبقارة لحماية جنائنهم وسعيتهم التي وجدت ثمارها تسويقاً مبتكراً في الخرطوم والخليج.
ولما ضاق بهؤلاء “الأبالة” اقتصادهم الرعوي تحولوا إلى اقتناء السلاح الثقيل والعسكرة لحماية ذلك الاقتصاد على علاته. وستكون هذه العسكرة عماد معاشهم حين خرجت الحكومة المركزية تجند لقواتها مثل حرس الحدود والدفاع الشعبي لحرب الحركات المسلحة المعارضة. واشتبكوا في مسعاهم ذلك مع جماعات من أهلهم وهم بقارة جنوب دارفور في معارك مضرجة الضحايا.
من أين جاء هذا الحميدتي؟ (2-2)
عبد الله علي إبراهيم
قال الروائي السوداني الطيب صالح “من أين جاء هؤلاء الناس؟” حين راعه من نظام “الإنقاذ” خروقه لحقوق الإنسان لدى توليه الحكم في السودان عام 1989. ولاحق السؤال النظام كاللعنة لصدوره عن سادن للروحية السودانية.
ويقف كثير من الناس أمام ما راعهم من حرب الدعم السريع الناشبة وقساوتها ليسألوا “من أين جاء هؤلاء الناس؟”
فالدعم السريع، حسب كتاب جولي فلنت عن الجنحويد، منتج شرعي للجفاف والتصحر الذي ضرب شمال دارفور كجزء من الساحل الأفريقي خلال السبعينيات والثمانينيات. وترافق فيه زعزعتان ديمغرافيان. فزعزعت موجات الجفاف المتلاحقة تلك أول ما زعزعت الأبالة (رعاة الإبل) العرب في شمال دارفور من قبائل منسوبة لشعب الرزيقات الذي كثيره مع ذلك من رعاة البقر (بقارة) في جنوب دارفور. ونكبت تلك البادية الشمالية في دارفور فلم تعد دارهم صالحة للعيش فيها. وسعى أبالتها يطلبون رزقاً في الأرض. وبغوا.
ومن جهة أخرى كانت جماعات من عرب تشاد ممن ضربهم الجفاف والتصحر نفسه وويلات الحرب الأهلية هاجرت إلى السودان. وكانت ذروة تلك الهجرة في منتصف الثمانينيات التي تبنى فيها العقيد معمر القذافي مشروع الحزام الإسلامي العربي إلى داخل أفريقيا بصور شتى. وجاء بعض أولئك العرب بدعوة من أهلهم في السودان يعززون صفهم لغرض أو لآخر. ومع توفر الماء والكلأ لهم حز في نفوسهم أنهم بلا “دار- حاكورة” في مهجرهم، وهذا نقص عظيم يجعلك مواطناً من الدرجة الثانية بين من استضافوك في دارهم وصارت، في قول فلنت، “أسبقية أولئك العرب حيازة حاكورة لقبيلتهم بالنظر إلى غربتهم في دارفور مجردين من الشوكة الإدارية والسياسة التي تأتي من تملك مثل تلك الحاكورة”. ورموا لذلك الغرض بعينهم على سكنى وديان شعب الفور الخصيبة في غرب وجنوب جبل مرة. فأخذوا في حلف مع عرب من السودان في طرد الفور من دارهم بحرق بيوتهم. فحرق مسيرية تشاد 10 قرى غرب بلدة كاس في ليلة واحدة خلال أكتوبر (تشرين الأول) 1987، وأنشأ المحتلون قرى جديدة واحدة باسم إنجمينا عاصمة تشاد.
وجاء الوقت لتستثمر الحكومة في محنة الرعاة العرب الوجودية تلك لمشروعها في تمكين نفسها.وترافقت مع ذلك تطورات في جنوب السودان عام 1991. واحتاجت “الإنقاذ” إلى الرجال لتجنيدهم فيما سمته “كتيبة السلام” لقاء الترخيص لهم باحتلال دار الفور غرب جبل مرة. فاحتل المحاميد من أبالة شمال دارفور غرب الجبل، بينما احتل بني حسين جنوبه وغربه. وكان نصيب السلامات والمهادي من عرب تشاد وادي أزوم المنحدر من الجبل. ثم استباحت الحكومة الجبل لهم باستعمالهم لقتال حركات دارفور المسلحة التي خرجت للمعارضة عام 2003. فاستنوا ممارسة حرق القرى لطرد أهلها نازحين إلى معسكراتهم في أطراف المدن.
وتأتي هنا النقطة التي رغبت فلنت في إثارتها وهي أن حرب العرب والزرقة تزامنت مع حرب للعرب ضد بعضهم بعضاً أيضاً. فكانت تلك الأرض المنزوعة من الفور سبباً للشقاق بين أولئك الأعراب أنفسهم. فصارعت الحوطية، وهم من عرب تشاد، النوايبة من أبالة شمال دارفور حول مثل تلك الأرض عند بلدة زالنجي عام 2007 وسقط 250 منهما صرعى. كما تصارع الترجم ضد الرزيقات الماهرية مما أسفر عن 500 قتيل. وتعاقد المهزومان، الترجم والحوطية، على حلف ضموا إليه البرقو (من الزرقة) والثعالبة من ولاية كردفان. كما ضموا إليه المسيرية من ولاية كردفان من ذوي الصلة القديمة بالحكومة التي أحسنت إعدادهم لحرب الحركة الشعبية في جنوب السودان. ولم تعد بحاجة إليهم بعد اتفاق السلام الشامل عام 2005.
وفي فبراير 2007 تصارع أبالة شمال دارفور والترجم حول وادي بلبل الذي هو أصلاً ملك للفور. وكان احتله الترجم، عديمو الدار، داراً في التسعينيات. وكانوا أول من تطوع للتجنيد مع الحكومة عشماً منهم لتمنحهم الحكومة داراً ولدوا من دونها. وجاء لينافسهم على الوادي أولاد منصور من الماهرية أهل محمد حمدان دقلو الذين هاجروا من شمال دارفور نهاية الثمانينيات إلى جنوب دارفور. وعبأ المتصارعون النصراء من تشاد. وهزم الأبالة الترجم هزيمة نكراء ونهبوا آلافاً من سعيتهم مخلفين 70 قتيلاً و50 ألف نازح من 52 قرية حرق الأبالة أربعاً منها. وعاد الأبالة للترجم في يوليو 2007 فقتلوا منهم 172 ودفنوهم في قبر واحد وغنموا محصولهم وسعيتهم.
وفي معركة أخرى قتل رصاص حرس الحدود 30 من الترجم. وزال خطر الأبالة على الترجم حين تمرد حميدتي نفسه على الحكومة وهدد باحتلال مدينة نيالا لتأخر الحكومة في صرف رواتب جنده.
وكشفت الحرب عن حجم الخراب الذي يقع جراء توافر السلاح الحكومي بيد القبائل من مثل الكاتيوشا والقذائف الصاروخية والـ 10 بنادق غير مرتدة ناهيك عن ناقلات الجنود من التاتشرات مما زودتهم به كتيبة مخابرات حرس الحدود. وكان قد أقبل على التجنيد فيها أبالة شمال دارفور ممن صار القتال مهنتهم بعد انسداد أبواب الرزق الآخر في وجههم.
ولم تقف حرب العرب للعرب. فدارت في فبراير عام 2010 حرب المسيرية والرزيقات. ودخلها أبالة الرزيقات الشمالية بأسلحة حرس الحدود وأنواع العتاد الذي تقدم ذكره. فاستدعي المسيرية من جانبهم أقرباءهم من تشاد وبقارة جبل مرة للهجوم على أحياء الأبالة النوايبة الذين استدعوا بدورهم عرب بني حسين والمهادي وأولاد راشد والعريقات والماهرية وأم جلول بقيادة ضباط من حرس الحدود.
ودارت تلك الحرب حول مَن مِن العرب يتملك أرض الفور المنهوبة؟ وذكر شهود نقل أسلحة ثقيلة لحميدتي من حرس الحدود. وجاء في تقارير مؤكدة أن المسيرية استعانوا بجماعة من أهلهم انشقت عن “قوى التغيير والديمقراطية” التشادية.
لن تكون أبعدت النجعة إذا اقتصرت إجابتك عن سؤال من أين جاء هؤلاء العرب الـ “جنجويد”؟ على قولك بمجيئهم من رحم المركز الحكومي. ولكنها إجابة في مثل بحث من أضاع شيئاً عنه تحت عمود النور في حين كان أضاعه في مكان معتم. فإذا اكتفينا بتوزير الحكومة بصناعة الـ “جنجويد” نكون ربما أحسنا المعارضة في حين تقاصرنا عن النفاذ إلى أوضاع في الريف زلزلت زلزالها. فتجاسرت فيه أعراف تملك الأرض مع نازلات الطبيعة وتآكل أساليب حياة مثل الرعي مع وهم حدود الدولة القومية مع زحف اقتصاد السلعة في إنتاج الريف، ليخرج منه مثل أبالة شمال دارفور الذين كان عليهم إعادة إنتاج أنفسهم من فرط وحشتهم وفاقتهم. وجاءتهم الدولة العاقة لا لتزيل الصدأ عن حياتهم بل لتستأجرهم ليقتلوا خصومها بلا غبينة معلومة، مكرهين لا أبطالاً. وغلبت السردية الأخيرة على الأولى. وهو غلب حرمنا من فهم حرب “الدعم السريع”، الدور الثاني من الـ “جنجويدية”، فلا نرى منها سوى خروجها من رحم مركز دولة “الإنقاذ” لا جماع السياسات في الريف والإقليم التي هيأت خروجها من ذلك الرحم. وقيل من جهل تاريخه أعاده وبثمن فادح في غالب الأحوال.
عبد الله علي إبراهيم