الجبايات بين الحكم المحلي 2003م والحركات المسلحة 2023م.. تفكيك الأسرار وحلحلة الألغاز !!!

الجبايات بين الحكم المحلي 2003م والحركات المسلحة 2023م
تفكيك الأسرار وحلحلة الألغاز !!!
في عام 2003م قمت بزيارة عمل إلى بورتسودان وقررت أن أتحرى عن تفاصيل الرسوم والجبايات المختلفة وهي جميعها تدخل في تكاليف الإنتاج والتصنيع أو التكاليف المضافة للسلع المستوردة.

لم أكن أتوقع أنني سأدخل لعالم من المجهولات يتهرب فيه المخلصون الجمركيون عن الإفصاح عن تفاصيل الرسوم والجبايات لأنهم تعودوا على تقديم فاتورة بالإجماليات ولا أحد يسأل فقد تعودوا أن يتعامل معهم التجار ورجال الأعمال بالقبول التام لدرجة الإذعان.

هناك رسوم لهيئة الموانئ البحرية ورسوم مناولة وتحريك وتبدأ من لحظة رسو الباخرة على الرصيف ، وغرامات تأخير.

وهناك رسوم وكيل الباخرة وعالم وكلاء البواخر وشركات الحاويات Containers عالم من الأسرار لا أحد فيه يحب الإفصاح فالجميع تعود على تقديم فواتير مبدئية provisional invoice بالإجماليات تقابل بالإذعان وعادة ماتكون الفاتورة المبدئية هي النهائية إلا في حالة حدوث زيادة طارئة.

الرسوم الجمركية عالم وتفاصيل ولكن الجمارك أفضل حالا فعلى الأقل يشكل مجلد النظام الموحد Homogenized System (H.S) دليلا يمكنك من تقدير الرسوم على وارداتك مسبقا.
ولكن هناك تقديرات الدولار الجمركي وهذه أعجوبة لا توجد إلا في السودان ، وهناك رسوم عديدة عدا رسوم الوارد والصادر المباشرة.
آه قبل أن ننسى ، حكومة ولاية البحر الأحمر لها رسوم أيضا.
معضلة الحكم المحلي والولايات والمحليات.

ما أكتبه هنا كان وقائع جولات ميدانية سنة 2003م ولا أعلم ما هو الحال اليوم ، ربما تكون قد ظهرت رسوم جديدة أو تغيرت نسب مئوية وما إلى ذلك ، ولكن هياكل الحكم كما هي : إتحادي وولائي ومحلي.

تعتبر المحلية درجة من درجات الحكم ويعتبر المعتمد رئيس وزراء المحلية كمنطقة جغرافية.
زرت في 2003م أو 2005م مكتب وزارة التجارة في بورتسودان وجلست لمدة أكثر من ساعة مع مدير المكتب في محاولة جمع المعلومات عن الرسوم والجبايات.

أحسن الرجل استقبالي ثم أخذ يشكو لي سوء حالهم مع نظام الحكم المحلي الجديد وفوضى الرسوم والجبايات مع رؤوساء المحليات وقال لي أنهم كمكتب تابع لوزارة التجارة الإتحادية لم تعد لديهم سلطة على المحليات وصارت الرسوم والجبايات فوضى وكل محلية تفرض ما يحلو لها كرسوم عبور على الصادرات.

تخيل مثلا شحنة الجلود أو الفول السوداني وهي تتحرك من دارفور أو كردفان وفي كل محلية تدفع رسوم للمحلية وحين تصل بورتسودان يفاجأ صاحب الشحنة برسوم جديدة أو زيادة في الرسوم فرضتها محلية بورتسودان ، كان هذا عام 2003م ولا أعلم هل تحسن الوضع الآن أم إزداد سوءا ؟!
سألته ، طيب ..ما هو عملك في ظل الوضع الحالي ؟

قال …عملنا هو استقبال الشاكين والباكين من المصدرين والتوسط لهم لدى المحلية ، قبل كم يوم كان عندي هنا واحد مصدر شحنة جلود طلبوا منه رسوم قال حايخلي الشحنة ويكبها ليهم قدام المحلية !!

سياسية الإنقاذ في الحكم المحلي كانت من أسباب تدمير الإقتصاد السوداني فقد اعتمدت على الإنجاز الفردي والتباهي بتحقيق الربط المقرر على المحلية والربط المقرر على الولاية وتحت وطأة الربط المقرر لا يهمهم كم يئن المنتج والمصدر كم أغلقت من مصانع وأفلست بيوتات.

في إحدى المؤتمرات في الخرطوم تحدث شيخ خليجي مستثمر في السودان وعاب غياب عقلية مركزية تخطط وتقرر وتراقب وتقيم الجبايات والرسوم من منظور شامل وانتقد التباهي بتحقيق كل وحدة ربطها المقرر كجزيرة معزولة.

جلست في العام 2003م في إحدى الوحدات الحكومية التابعة لوزارة الزراعة الإتحادية مع دكتور زراعي قال لي أنه عمل إحصائية بما لا يقل عن إثنين وعشرين (22) من مختلف أنواع الرسوم الجبايات المفروضة على المحاصيل النقدية للصادر وقال لي أن عددا من محاصيلنا فقدت قدرتها على المنافسة في السوق العالمي.

كان ذلك في 2003م والانترنت في السودان لا زال يحبو فكيف اليوم وقد صار بالإمكان من الهاتف الذكي دخول البورصات العالمية للمعادن والمحاصيل حيث التنافس بالدولار والنصف دولار وحيث تتنافس العديد من الموانئ ضد بورتسودان في سرعة وسهولة الإجراءات وأسعار الخدمات والرسوم وقبل الحرب حين تكررت حالات الإغلاق الاحتجاجي لميناء بورتسودان أعوام 2020م و2021م اكتشف العديد من الموردين السودانيين أن من الأفضل لهم استيراد حاجياتهم عن طريق موانئ جنوب مصر على البحر الأحمر !

الإقتصاد الإبتزازي ..إقتصاد الإرتكازات ..
تذكرت كل ذلك حين قرأت بالأمس عن ركود سوق المحاصيل بالأبيض بسبب الرسوم التي تقوم بتحصيلها قوات الدعم السريع من الشاحنات العابرة من مناطق الانتاج نحو الأبيض وقرأت أيضا بشكل عابر أن الدعم السريع له ارتكازات كثيرة جدا في طريق نيالا الفاشر يفرض كل منها رسوما ولا أعلم هل عندهم نظام حسابات موحد ومنضبط أم كل ارتكاز دولة لوحدها ؟!
إذن الدعم السريع يتجه لممارسة شائعة في دول أفريقية مثل أفريقيا الوسطى والكونغو كينشاسا حيث تسيطر الميليشيات على مناطق شاسعة وتبني إقتصادها الخاص بها خارج سيطرة الدولة وهو إقتصاد الإرتكازات Roadblocks Economy ، وهو إقتصاد إبتزازي لا يقدم خدمات للمواطنين ولا يبني دولة وفيه تتفكك الحركة المسلحة المعارضة إلى عصابات مسلحة تتحكم كل مجموعة في منطقة جغرافية ويرأسها أمراء حرب تنتهي أموال الجبايات في جيوبهم.

خطورة هذا الوضع أنه هو الوضع المفضل لدى الشركات الكبرى خاصة في مجالات المعادن الثمينة precious metals وهي معادن أغلى من الذهب بكثير وتتعامل شركات التكنولوجيا مع معادن نادرة مستخرجة غالبا من مناطق النزاعات في أفريقيا الخاضعة لسيطرة أمراء الحرب ، ولذلك تتطاول النزاعات والحروب الأهلية في أفريقيا ونسأل الله تعالى أن لا تطول هذه الحرب في بلدنا وألا تتفاقم الظواهر السالبة والحق يقال فجميعها ارتكازات ابتزازية تحطم الاقتصاد سواء ارتكازات الميليشيات في 2023م أو إرتكازات المحليات التي إشتكى لي منها مدير مكتب وزارة التجارة في بورتسودان 2003م.

#كمال_حامد 👓

Exit mobile version