💢بعد سقوط حائط برلين في نوفمبر ١٩٨٩ثم اطلاق سراح الزعيم الجنوب الافريقي نيلسون مانديلا من السجن في فبراير ١٩٩٠، ثم تسليم البرتغال للصين شبه جزيرة او ارخبيل (ماكاو) بعد اكثر من ٤٠٠ عام من الاستعمار بعدما حولتها عاصمة للقمار والجنس تناهز لاس فيجاس، انتهت ظاهرة الاستعمارالمباشر واخضاع اراضي الشعوب بالقوة القاهرة لشعوب او امبراطوريات اخري لا علاقة لها بأصحاب البلاد الاصليين.
اعادت امريكا بعد ذلك الكرة وغزت افغانستان بعد احداث سبتمبر ٢٠٠١، وتبعت ذلك بغزو العراق ٢٠٠٣، الا انها في الحالتين أخرجت مرغمة بفعل المقاومة الوطنية.
أكدت تجربة امريكا في الدولتين ما تأكد عبر العقود، وهو ان الشعوب لن تقبل بالاستعمار المباشر تحت كل الظروف وان الغازى سيدفع تكلفة باهظة الثمن ولن يهنأ بغزوه كما كان الامر منذ الاستكشافات البرتغالية في القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن العشرين.
ومع انتهاء حقبة الغزو المباشر، تفتق عقل الامبريالية عن طريقة جديدة لاستعمار الشعوب واستغلالها، وهي استخدام او استغلال منظمة الامم المتحدة كاداة لاعادة استعمار الشعوب عن طريق ما اصطلح على تسميته بعثات حفظ السلام. و هذه في جوهرها استعمار جديد مغلف بورق مقوى مكتوب عليه من الخارج (حفظ السلام والمساعدة في الانتقال الديمقراطي) او بإسم مشابه حسب مقتضي الحال، ولكن الهدف الاساسي للهيمنة والسيطرة يظل ثابتا.
ترى هل كان من قبيل الصدفة ان ترفع (بتشديد الفاء) (ادارة عمليات حفظ السلام) في الامم المتحدة الى وكالة قائمة بذاتها في العام ١٩٩٢تتبع للامين العام (راجع تواريخ نهاية حقبة الاستعمار المباشر اعلاه).
للامم المتحدة الآن ١٢ بعثة حفظ سلام حول العالم ستة منها في افريقيا وحدها. توفر هذه البعثات حوالى ثمانون الف وظيفة بقيادات وموظفين اغلبهم اوروبيين او امريكان مع تمومة جرتق من الافارقة والاسيويين واللاتينين، ولكن تظل القيادة والسيطرة عند اهل الشأن.
بإسم السلام والتحول الديمقراطي تضع الاجندة والبرامج للدول التى تتواجد فيها البعثة وتلك الاجندة تتضارب في كثير من الاحيان مع اولويات تلك الدول اذ يتم تجاهل شبه تام لثقافاتها وموروثاتها وتفاعلاتها وتشابكاتها المجتمعية الخاصة بها.
يعمل ممثلوا الاستعمار الجديد باسم بعثات الامم المتحدة من خلف ستار افراد او مجموعات (وطنية) تنفذ لهم اجندتهم وارادتهم على شعوبهم.
وان كانت الامبريالية قد كسبت معركة الإستتباع الاقتصادى للشعوب الفقيرة بتثبيت نظام اقتصادى ظالم يعمل لمصلحتها، الا ان مرحلة الاستتباع الثقافي و ما يعرف بي
cultural assimilation
يواجه تحديات جمة يصعب تجاوزها.
لفرنسا الاستعمارية تجربة كبيرة في مستعمراتها السابقة في افريقيا لعملية التماثل الثقافي لفرض ثقافتها ولغتها على الشعوب التى استعمرتها، لكنها نجحت فقط في فرض لغتها وفشلت في محو العقيدة او الموروث الثقافي لتلك الشعوب. لقد استصعب فهم الامر حتى على علماء الانثروبلوجي، لماذا (رغم القهر) قبلت شعوب المستعمرات اللغة ورفضت بقية مقومات الفرنسة رغم القهر الشديد الذى صاحب عملية التماثل الثقافي.
واليوم تعود الامبريالية ووكلائها بخليط من القوانيين والمفاهيم (المثلية الجنسية مثالا)، للتشريع لها وفرضها على شعوب ترفضها عقيدتها وموروثاتها الثقافية وضوابطها القيمية الاجتماعية. ولقد رأينا كيف اهتمت حكومة حمدوك بتلك القضايا الهايفة ومنحتها اولوية على بقية قضايا الامة من فقر وجوع وصحة وتعليم. بالطبع لقد كانت تلك محاولة بائسة لفرض قيم وانماط سلوكية جديدة على مجتمعات ترفض عقيدتها ونظمها الاجتماعية ومفاهيمها القيمية تلك الظواهر السلوكية، التى تفرض حتى في بلادهم بقوة القانون وليس بالقبول والرضا المجتمعي.
وكدأبها في تنفيذ خططها للسيطرة، جاءت الامبريالية حمدوك رئيسا للوزراء كواجهة لينفذ لها خطتها للسيطرة والوصائية على بلادنا.
يخطىء بعض الكتاب الذين يقولون ان حمدوك لم يكن له برنامج للحكم! ينسي هولاء ان حمدوك جاء بناء على استعداده لتنفيذ برنامج اجنبي معد سلفا تفرغ له مئات الخبراء والمختصين من كل حدب وصوب و(وضبوه) .
في حقيقة الامر فالبرنامج كان معد سلفا وجاهزا للتنفيذ، اداته هى اليونيتامس وواجهته حمدوك..! وما كان حمدوك الا قناة ووجه محلي تمرر من خلاله اجندة خارجية وكان هو وجماعة المركزى
سعداء للقيام بدور ال
surrogate mother
-(الام التى تؤجر رحمها) – للامبريالية وآداتها اليونيتامس.
انظر كيف استغل حمدوك موقعه كرئيس للوزراء (غير منتخب) ممتجاوزا صلاحياته ليخاطب الامم المتحدة ودون تشاور مع مجلس الوزراء ولا مجلس السيادة ليطلب ارسال بعثة اليونتامس. ولم يكتشف مجلس السيادة ولا مجلس الوزراء طلب رئيس الوزراء للامم المتحدة الا بعد ان وصل الطلب للامين العام. عند ذلك تدافع اعضاء مجلس السيادة وبعض اعضاء مجلس الوزراء لاجراء تغييرات جوهرية في الطلب اذ انه كان بمثابة استعمار كامل للبلاد حسب ما علمت من الذين اطلعوا على الطلب.
ولازلت اقول وأطالب إن مبدأ الشفافية ومصارحة الشعب يقتضي على بعثة السودان في الامم المتحدة وسكرتارية مجلس الوزراء نشر الطلب الذى تقدم به عبد الله حمدوك منفردا للامم المتحدة قبل تغييره حتى يعلم الناس حجم المؤامرة والدور الذي قام به حمدوك ومايزال. وحسب ما علمت من احد اعضاء مجلس السيادة السابقين ان الطلب الذى ارسله حمدوك (فضيحة وكارثة ولا احد يتصور ان يجروء اى شخص على تقديم مثل ذلك الطلب الذى احال البلاد لمستعمرة بمعنى الكلمة)!
واكمالا لفصول المؤامرة؛ اختار حمدوك منفردا السيد فولكربيرنتس لقيادة البعثة، ومثل ما كان تقديم الطلب منفردا خارج صلاحياته كان ايضا اختيار رئيس البعثة خارج صلاحياته وكان يتوجب عليه التشاور مع المجلسين لاختيار رئيس البعثة، ولكن ولأن المؤامرة لم تكن لتنجح في وجود شخص غير فولكر استغل حمدوك موقعه واختار فولكر دون التشاور مع المجلسين.
بينما نجح حمدوك في اخضاع عدد من اعضاء مجلس الوزراء وعدد من قادة المجلس المركزي بشراء ولائهم من خلال توفير منح كمخصصات مالية لهم من الاتحاد الاوروبي الا انه واجه صعوبات بالغة في استمالة المكون العسكرى وظلت علاقته بهم متوترة بل اتسمت بعدم الثقة وهو امر خطير جدا اذا حدث في قيادة اجهزة الدولة العليا.
لكل ذلك كان السيد فولكر لا يأبه كثيرا بعدد من اعضاء مجلس الوزراء او بقيادات المجلس المركزي لانه يعلم مسبقا انهم (يتجشأون) امواله وأموال الاتحاد الاوربي. لذلك انصبت محاولاته على المكون العسكري لترويضه وادخاله لبيت الطاعة من خلال حمله على القبول بتفكيك الجيش تحت مسمي اعادة تأسيس القوات المسلحة بجانب تكرار اتهامه لها بقتل المتظاهرين ورفع ذلك في تقاريره لمجلس الامن لمزيد من الضغط عليهم.
كانت الخطة واضحة اذن، اعادة استعمار السودان من خلال بعثة اممية تدير خيوط اللعبة وتنفذ خطتها من خلال رئيس وزراء عميل ومجموعة ومن السذج المرتشين بائعي اوطانهم بحفنة دولارات جاهزين لتنفيذ الاوامر التى يؤمرون بها. وقد رأى السودانيون دون شك كيف وقف هؤلاء يصفقون لحاكمهم العام فولكروهو يخاطبهم في قاعة الصداقة..! لقد كان ذلك سلوكا صادما ومستفزا للشعور الوطنى! ثم ما تلى ذلك من مؤامرات مفضوحة اسموها (ورش عمل) ناقشوا فيها علنا كيفية تفكيك الجيش مع مجموعة من الاجانب وتلك لعمرك سابقة لم تحدث في تاريخ الشعوب!
بالطبع، تحتاج كل مؤسسات البلاد للاصلاح بما فيها الجيش، ولكن مهمة اصلاح الجيش دون غيرها هى من صميم عمل حكومة منتخبة لها تفويض من الشعب وليس شلة من الناشطين العملاء الذين ينفذون اجندة الخارج ويأتمرون بأمره. تحجج لى احد عملاء السفارات بأن اعادة هيكلة الجيش نص عليها في اتفاق سلام جوبا، وان كان ذلك قد ورد في الاتفاق، يجب كشطه مباشرة اذ ليس من حق عدد من الحركات فرض رؤاها على الشعب السوظانى و اهم مؤسساته القومية، ولا يعقل ان يترك للحركات او مجموعة ناشطين العبث بأهم مؤسسات البلاد الامنية ولن يقبل احد بذلك. يحق للحركات فقط الحديث عن دمج قواتها في الجيش اما اعادة بناء وهيكلة الجيش فهى من صميم عمل الحكومة المتتخبة ولها تفويض واضح من المواطنين.
لقد كان واضحا من تصريحات فولكر ورهطه ان البعثة في حقيقتها سلطة فوق الدولة السودانية، وان رئيسها يتصرف كحاكم عام لبلاد السودان، في امتهان وتجاوز تام لسيادة بلادنا، وذلك مما لا يسمح به مطلقا!
لقد كان على مجلس السيادة اقالة حمدوك مباشرة بعد افتضاح طلبه للبعثة الاممية لانه تصرف خارج صلاحياته و قام بفعل يسلب بلادنا استقلالها وسيادتها، ولاسباب لا زلت اجهلها تردد المجلس في اقالته وقد كان ذلك أكبر اخطاء مجلس السيادة في تكوينه الاول، وان لم نعول على المكون المدني في المجلس لاقالة رئيس الوزراء لسذاجتهم وقلة خبرتهم فإننا لا نجد العذر للمكون العسكري في ذلك الامر، فلقد كانت جريرة الرجل أكبر من اى تبرير.
لا اود الحديث عن نفسي، ولكننى ظللت مع اخرين منهم الناظر ترك ومبارك اردول نحرض القادة علي فولكر ونحثهم على طرده وعلى عدم استقباله في مكاتبهم، وفي النهاية واجهته في لقاء مشهود في افطار رمضان ٢٠٢٢ في فندق روتانا امام حشد من قادة القوى السياسية والمنظمات وطالبته باحترام سيادة بلادنا وبالحديث بأدب في تصريحاته الصحفية احتراما للشعب السوداني خاصة ونحن كأفارقة لنا تأريخ مرير مع الاوروبيين. كنت كغيري اعلم ان فولكر هو واسطة العقد او رمانة المؤامرة الدولية على بلادنا فإن طرد انهارت المؤامرة و تفرقت حبيباتها ومكوناتها شلوا شلوا.
لا يملك الانسان الا ان يشيد بالمظاهرات والاحتجاجات التى نظمها الاسلاميون وغيرهم من القوى الوطنية ضد البعثة الاممية التى اثبتت وعيهم السياسي المتقدم وفهمهم للطبيعة الاستعمارية للبعثة، وان اصلاح بلادنا والدفاع عن سيادتها يبدا بطردها لا بتنفيذ اجندتها الخبيثة.
السودان ثالث دولة افريقية بعد اثيوبيا وليبيبا نالت استقلالها من المستعمر ان تركنا ليبريا وجنوب افريقيا ومصرلقضايا تاريخية مختلفة. وقد ساهمت حكومات السودان المتعاقبة مدنية كانت ام عسكرية في دعم حركات التحرر في القارة الافريقية حتى سقطت معاقل الاستعمار في جنوب افريقيا في العام ١٩٩٠. ذلك تاريخ مشهود لا يمكن انكاره. بل حينما كان الاوربيون يبسطون سيطرتهم على القارة الافريقية في القرن التاسع عشر كان السودان دولة مستقلة ايام الدولة المهدية (١٨٨٥ -١٨٩٨) بصرف النظر عن طبيعة تلك الدولة ولذلك فالاستخفاف والاذدراء للوعي الوطنى لشعبنا امر مستفز لا يقوم به الا جاهل لا يعرف تاريخنا. ومن خطط لتلك البعثة واستقدمها قصد استفزاز شعبنا والنيل من كرامته الوطنية بفرض الوصاية عليه، لا بل استعماره من جديد.
لقد تجاهل حمدوك ورهطه من العملاء حقائق تاريخية ساطعة، وهي ان السودانيون قد يختلفون في كل شىء ولكنهم لا يختلفون على استقلال وسيادة بلادهم، وكل من يحاول المس او النيل من سيادة البلاد مكانه المزبلة.
لقد تضافرت جهود الكثيرين من الوطنين للضغط لانهاء مهمة بعثة ينتامس الاستعمارية وقد كللت تلك الجهود بالطلب الذي قدمته بعثة السودان بالامم المتحدة للامين العام بأنهاء مهمة البعثة في البلاد. و للتاريخ، فقد قامت البعثة بمجهود رائع وهى تناضل وتتواصل وتعمل بهمة كبيرة وسط لوبيات كثيرة ومحترفة في دهاليز السياسة الدولية ونجحت في التعبير عن ارادة الامة وتجسيد رغبتها في حماية سيادة بلادنا من الاستعمار الحديث واساليبه الحربائية. من الخطأ الكبير التقليل من المجهود الذى قامت به البعثة لتحقيق تلك الرغبة الشعبية العارمة. التهنئة لهم ولكل من قال كلمة او خرج محتجا لرفض الاستعمار الجديد.
والحال كذلك، لم اتفاجأ قط ان يخاطب حمدوك الامم المتحدة من جديد بغرض التجديد للبعثة، فحمدوك يعلم اكثر من غيره انه بدون البعثة تسقط جميع احلام الاستعمار الحديث ويسقط مشروع الامبريالية في السودان الذي ينفذه مع شلة من ناشطى المجلس المركزى ولكن هيهات.!
هذه الارض لنا
علي عسكوري