📍المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (39) لندن (2)

📍المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (39)
لندن (2)

بعد تقديم نسخة من أوراق اعتمادي، ونسخة من استدعاء السودان للسفير الذي سبقني لوزارة الخارجية، كما هو التقليد؛ بُلّغتُ أنني يمكن أن أمارس مهامي كاملة عدا اللقاء بأعضاء الأسرة المالكة؛ لأن هذا لا يتم إلاّ بعد تقديم أوراق اعتمادي للملكة، كما هو التقليد أيضاً.
ثم أرسلت لي المراسم الملكية تفاصيل بروتوكول تقديم أوراق الاعتماد؛ وطلب منّي الحضور لمكتبهم لإجراء بروفة Rehearsal لإجراءات بروتوكول تقديم أوراق الاعتماد.
وفي الموعد المضروب قدَّموا لي شابة لتمثل دور الملكة. وأجرينا البروفة.
أخطروني أن عملية تقديم الأوراق للملكة ستأخذ عادةً ما بين 6.5 دقيقة إلى 7 دقائق.
ونصحوني أن لا أقترب كثيراً من الملكة وأن أترك مسافة حوالي متر بيني وبينها.
ومن خلال البروفة فهمت أن المستهدف من المسافة هو أن أنحني راكعاً لتقديم الأوراق، وفي هذه الأثناء تؤخذ صورتي وأنا راكع أمام الملكة!!!
من فوري قررت أن لا أنفذ نصيحة المسافة تلك، رأيت فيها شيئاً من إهانة، وبعض ما يَقْدَح في ديني، ثم إننا لا نطلب من السفراء الانحناء أثناء تقديمهم أوراق اعتمادهم لرئيسنا.
وبالفعل لم أنحنِ وأنا أقدّم أوراقي للملكة، فقدمتها وأنا منتصب القامة، كما تُظهر الصورة المنشورة في الشبكة العنكبوتية.
وفي يوم تقديم الأوراق، أرسل قصر بكنجهام عربة حصان Carriage تقودها عدة أحصنة ويرافقها الحرس الملكي.
وحرصاً على كل تفاصيل مراسمهم العريقة، أعطوني وزوجتي بطاطين وزجاجتين مليئتين بماء دافئ، لتدفئتنا في ذلك اليوم البارد. وتحركت العربة متهاديةً إلى أن وصلنا القصر القريب من السفارة.
ولمصلحة ناشئة السلك، أذكر أن بعض إجراءات المراسم تختلف بين بلد وآخر، وإن ظلت بينها ثوابت.
ومن بين ضروب الاختلاف أن الإنجليز لا يقيمون مراسم تفتيش حرس الشرف Guard of honor للسفير لدى تقديمه أوراق اعتماده للملكة، كما هو دارج في كثير من البلاد.
وفي داخل القصر انتظرت لبضع دقائق، ريثما تفرغ الملكة من تَسَلّم أوراق السفير الذي سبقني.
ومواقيت تقديم الأوراق هي التي تحدد أسبقية السفير Precedence في كل المناسبات الرسمية التالية؛ وهذا عرف عالمي؛ وتحرص الدول على تنفيذه بدقة فقد كان سبب حرب بين بعض الدول الأوروبية فيما مضى.
ثم أدخلونا عليها، فقلت بضع كلمات ناقلاً تحيات الرئيس لجلالتها، ثم قدمت أوراقي بالطريقة التي اخترتها.
وكانوا قد نصحوني في البروفة أن أحسن الإصغاء لجلالتها، فهي التي تبتدر الكلام.
ونصحوني ببدهية وهي أن اجتنب إثارة أي موضوع حساس أو ذا طبيعة جادة مع الملكة، فالمطلوب من السفير أن يُؤمّن على كل ما تذكره الملكة، وحبذا لو قال: Yes, mame.
ذكرت لها أن السودانيين يذكرون زيارتها للسودان عام 1965.
ومما عجبت له أنها قالت لي: إنها تذكر الطباخ السوداني الذي أعدّ لها الطعام أثناء الزيارة.. وكنت أظن أن الطباخ الإنجليزي المرافق لها هو من يطبخ لها الطعام!!!
حضرت من قبل تقديم أوراق سفراء لرئيسنا؛ وحتى لسفراء لم تكن علاقة السودان معهم جيّدة. وقدمت أنا أوراق اعتماد لرؤساء. وكنت أجد شيئاً من ترحيب وبعض دفء في كل تلك المناسبات، رغم الجو الرسمي الذي يحيط بها. ولكن لقائي بملكة الإنجليز كان انعكاساً للشخصية الإنجليزية.
يحرص الإنجليز على إخفاء عواطفهم وإحاطة أنفسهم بالغموض؛ ويتعاملون مع الأجانب بصورة آلية باردة، بصورة تَشِي ببعض مَكْر.
ولعل هذا الغموض وإخفاء دخيلة النفوس والمَكْر، هو ما مكّنهم من السيطرة على العالم أيام كانت لهم إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.
بالطبع لم أكن أتوقع أن تحتضنني ملكة أو أن تُضاحكني؛ ولكن وللأمانة تملكني شعور وأنا مع الملكة أنني أتعامل مع إنسان آلي.. كان ذلك حقيقة شعوري؛ وأتمنّى أن لا يَعُد الإنجليز ذلك إساءة من قِبَلِي!!!
إن لم تخنّي ذاكرتي، فقد كانت بلندن 185 سفارة؛ وهذا كفيل بأن يجعل السفير مشغولاً إلى أقصى درجة، لكثرة المناسبات الدبلوماسية التي تقيمها السفارات. ويحدث أحياناً أن تُقام أربع مناسبات دبلوماسية في اليوم الواحد. وكنت أتخير السفارات التي لدى السودان علاقات أقوى مع دولها فأذهب لمناسباتها، وأوزع الباقي على الزملاء. وجراء هذا الازدحام فأنا لا أعرف شيئاً يذكر عن لندن كمدينة.
ومن الشخصيات التي ستبقى مذكورة في نفسي بالخير عن أيام لندن؛ السفير محمد عبد الله التوم وهو رجل محترم ويحترم مهنته إلى حدودها القصوى. وكذلك المستشار محمد عثمان عكاشة، وهذا شاب في قمة المسؤولية والتهذيب، وكذلك الشأن مع السكرتير الثالث عمر حامد.. وكنت واثقاً أن هذين سيكونان إضافة طيبة للسلك الدبلوماسي.
ومن الشخصيات التي كنت أكن لها تقديراً، دكتور خالد المبارك. وكانت البيانات الصحفية التي يصدرها بصفته المستشار الإعلامي لوحات أدبية نقِشت بحروفٍ إنجليزية ذهبية. ولخلفيته السياسية (كان شيوعيا) كانت إفاداته في المحطات التلفزيونية تَتّسم بالعمق والإحاطة. وكانت شدة دفاعه عن الإنقاذ تفوق دفاع البشير عنها.
على أنّ ما أثار عجبي – وهو رجل ثمانيني – أنه جعل كل ذلك وراءه ظِهْرِيّاً، بعد سقوط البشير. بل قلب ظهر المِجَنْ لكل تاريخه ذاك، وطَفِقَ مسحاً بالسُوقِ والأعْنَاق لكل ما كان يقول ويكتب.
بصق الرجل – كما كان يقول الأستاذ عبد الباسط سبدرات نافياً مثل هذا السلوك عن نفسه – على كل ما كان بينه وبينها، وذلك بعد أن استمتع بخيراتها حوالي عشر سنوات وهو في لندن. ونسي علاقات صداقة كنت أظنّها عميقة مع قيادات إنقاذية مثل بروفسر إبراهيم أحمد عمر، لما عرفته منه عنهم.
وحين كنت وكيلاً، جاءني في مكتبي بروفسر إبراهيم أحمد عمر وهو رئيس البرلمان، وكان يُمكنه استدعائي. وجاءني متشفعاً لعدم نقل دكتور خالد من لندن بعد أكثر من ثماني سنوات. وقال إنه سيتحدث بشأنه أيضاً مع وزارة الإعلام.
قلت له: إننا لا نَنْقِمُ على دكتور خالد كفاءة ولا تميّزاً؛ ولكنه كان ضعيف السمع لدرجة بلغت أنه كان – للمبالغة – يجيب المذيع عن الأوضاع في سيراليون إذا سأله عن أسباب ارتفاع أسعار المعيشة في بانديغيو!!!
ورغم ذلك ضغط البروفسور فواصل دكتور خالد مهمته في لندن.

📍السفير عبد الله الأزرق

Exit mobile version