حسين خوجلي: الخرطوم بقت بعد الحرب بلاله

* كلما شاهد محررو صحيفة ألوان سيارة الأخ طارق بابكر معفرة بتراب مدينة القضارف الحبيبة، تحسسوا زجاجاتهم الفارغة ترقباً لزيت الولد وعسل الجبل الأصلي، وهي عادةٌ اعتادها كلما زارنا، وهو يردد ألم يقل المصطفى يوماً تهادوا تحابوا؟ وكان يضيف بعباراته اللطيفة هذا زيت سمسم الولد المصهور بجملٍ أصهب وعسل قُطف من الخلية مباشرةً، ويضحكُ مضيفاً: دي يا أستاذ “خلية تنظيمية”. والأخ طارق حفظه الله من الذين اذا زاروك أطلقوا في روحك الإنعاش والرضا والبشريات. وكنت أقول للأصدقاء لو كتب للسودان السعادة لصنعنا خمسين مليون نفس راضية من وسطية واعتدال طارق.

وأهل القضارف دائماً يشتكون من قلة المطر ومن السَلَم وضُعف أسعار المحاصيل ومن أقساط البنك الزراعي. وكان لطارق عبارة شهيرة كلما سألته عن حال المدينة فيرد قائلاً:( يا أستاذ حسين براكا عارف الحالة، بقت العيشة في قضروف سعد ملالة) ويكملها بابتسامته الودودة التي لو أدرك أصالتها لسجلها في الملكية الفكرية.

ومن أحزان هذا الزمن البائس أننا غادرنا دون وداعه، وهو يكابد ابتلاءات السودان.
* وصديقٌ آخر احتفظ باسمه سراً لحساسية حالته الصحية وموقعه وسكناه ودوره الوطني الماثل، تقابلنا في بداية الستينات في العمل الطلابي ضد السلطة الحاكمة انذاك، كان ثائراً وحافظاً وشاعراً لا يخشى في الله والوطن لومة لائم، وكان اسمه الحركي انذاك “ود الأصول”. أخذتنا دراسة الفلسفة والصحافة وأخذته دراسة الهندسة والعمل بالخارج لإعالة سبعة من اخواته بعد وفاة والده ووالدته. عاد إلى السودان قبل سنوات واحتفظ بذات الإيمان الراسخ والوطنية والإنتماء، بنى بيتا صغيراً وأنيقاً مع زوجته المهندسة، وكان يحلم بأن يقضي بقية حياته في سودان سعيد إلى أن دهمته هذه الحرب اللعينة. أخرج أسرته الصغيرة إلى قريته البعيدة وبكت الأم والبنات وهم يغادرون عشهم الذي شيدوه من ليل الأسى ومر الذكريات. أبت الأسرة الدامعة المغادرة، ولكنه قال بلغة آمرة وحاسمة 😞 يا باشمهندسة الأعراض لا الأغراض) وفي أقصى الحديقة حفر قبره وأبقى بجواره مصحفه ومفتاح المسجد ومائدة الأشعريين، بليلة المباشر لا المكاشر بالملح والزيت.

وعندما علمتُ كشكول المرض الذي يعانيه، راسلته بأن يغادر وله العذر والعتبى وقلت له: بقليلٍ من الجهد يمكن أن تغادر من أرقين أو صالة المغادرة بمطار يورتسودان وداعبته بعبارة ود بابكر وأبيات شاعر الشرق بشي من التحوير والإضافة وهو اجتهادٌ عند عشاق الحرفِ مقبول:
يا ود الأصول براكا عارف الحالة
الخرطوم بقت بعد الحرب ملالة
ما دام جافتك جافيها مالك ومالها
آدم وحواء خلوا الجنة من قبالها
وقد أدهشني بأبياتٍ تشير بأن شاعرية الباشمهندس الصابر ما زالت متقدة وأن عقيدته في المجاهدة ما زالت عامرة قائلاً:
يا ود الشريف أنا ما بخش (الصالة)
لا مغادرين ولا مهاجرين ولا رحالة
الخرطوم بقت بعد الحرب (بلالة)
حارساها النسور عزة وشرف وبسالة
انقطعت أخبار الرجل وأرجو من كل قلبي أن يظل القبرُ مفتوحاً والقلبُ مفتوحاً والمصحف مفتوحاً وباب المسيد مفتوحاً وقدح بليلة المباشر. فإن ظلت هذه المفردات مفتوحة فإن المهدي في ضواحي الخرطوم حول الأسوار وإن فتح الخرطوم الجديدة لقريب.

حسين خوجلي

Exit mobile version