السفير عبد الله الأزرق يكتب:
المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (27)
واشنطن (4)
بعد قرون من الاسترقاق والاضطهاد والبعد عن الجذور، فقد الأمريكان من ذوي الأصول الأفريقية ثقافتهم وهويتهم.
لكن كثيرا من قياداتهم ومتعلميهم أدركوا، بل تحسروا على فقدان الهوية والتاريخ والثقافة.
وهكذا لمع نجم ماركوس غارفي وروزا بارك وأليجيا محمد ومارتن لوثر ومالكولم ومحمد علي ولويس فرقان ، ومن إليهم من الرعيل الأول.
أمّا الذين أسلموا فوجدوا في الإسلام ملاذاً ثقافياً وهوية تعتد بالكرامة.
بعضهم يميل إلى استخدام الكلمات العربية القليلة التي تعلموها؛ ولبس الجلاليب والطواقي كرمز ثقافي يميزهم عن (الرجل الأبيض) وهم بذلك فخورون.
والحقيقة أنه رغم مضي قرون على إعلان تحرير العبيد The Emancipation Proclamation الذي أصدره أبراهام لينكولن في 1يناير 1863؛ ورغم مرور عقود على صدور قانون الحقوق المدنية Civil Rights Act (1964)؛ إلّا أن العنصرية لازالت موجودة في أميركا..
ويتجلى ذلك في سكنى البيض منفصلين – في الغالب الأعم – عن أحياء سُكنى السود؛ وكما يتضح في معاملة الشرطة القاسية للسود، وفي أحكام المحاكم التي لا تخلو من تحيّز ضدهم ، ورصد هذه التحيزات مؤلف كتاب : The Myth of the American Justice System .
وإلى يومنا هذا يصلي السود في كنائس خاصة بهم وكذلك البيض!!! ولازالت عصابات العنصرية مثل K K K موجودة. هذا في الواقع، دع عنك القوانين.
وأمام عنصرية الرجل الأبيض، ارتفعت أصوات من السود في الستينيات كانت تدعو للانفصال عن أميركا. بل برزت عنصرية مضادة تولاها رجال مثل مالكولم أكس تقول:
”The Black Man is the Original Man, and the White Man is the Devil Himself .”
“الأسود هو الإنسان الحقيقي الأصلي، والأبيض هو الشيطان نفسه”.
وكمثال يعكس الانفصال الشعوري لدى السود والمسلمين منهم خاصة، تجدهم يخاطبون البيض أحياناً بالعبارات العربية القليلة التي يعرفونها.
ذات مرة كان أحد هؤلاء مرافقا. لنائب إمام مسجدهم (The Nayeeb)، وحدث أن احتد عامل محطة الوقود مع (الناييب) فنزل صاحبنا ذاك وكان جسيماً قوياً، له أكُفْ كثَفِنَات الأبل، وصفع ذلك العامل صفعةً أطارت صوابه؛ وصرخ فيه قائلاً:
You don’t have Adab. You don’t respect the Nayeeb
والمسكين لا يفهم كلمة ناييب ولا كلمة آداب!!!
وفي نيو جيرسي ينص القانون المحلي للبيع والشراء بالنسبة للذين يبيعون بضائعهم في أماكن حددتها البلدية، أن الأولوية لمن يحجز موقعه باكراً. وجاء أحد إخواننا المسلمين السود متأخراً وألَحّ على إجلاء من سبقه إلى الموقع بحجة أنه عرض بضاعته هناك بالأمس. وكان إصراره ذاك مناقضا للقانون؛ لكنه أخاف الرجل وأجلاه. ثم جاء متفاخراً بخرقه للقانون ومدعياً أن فعلته تلك هل التصرف الإسلامي الصحيح في مواجهة الكفار. وأخذ يردد:
”You see man , these Kafir , they think Islam is a Joke”!!
وكان صديقنا الشجاع المستعد دوماً لمقارعة النهابين عبد الصمد عبد العال علي ، يضحك على إقحام الإسلام عُنوةً فيما لا صلة له به .
كنت أزور مقر إقامة جماعة (أنصار الله) في شرق نيويورك.. وهي جماعة تدّعي أنها امتداد لأنصار المهدي في السودان؛ كونها أحد الأمريكان السود سَمّي نفسه (الإمام عيسى المهدي)؛ وجمع أنصاره في مجمع سكني متقاربة بناياته، ويفصل فيه بين الرجال والنساء بما في ذلك الأزواج، ويلبس كل أنصاره من الرجال جلابيباً وطواقي، ويعملون في التسوّل!!! وكان الأستاذ عبد المحمود الكُرونكي والأستاذ يوسف البخيت (من ود أرُو) يدرسان أطفالهم ، وكان زكريا أخ يوسف شيخاً كريماً فاضلاً ، رحمه الله رحمةً واسعة .
ومن ذوي التأثير فيهم صديقنا دكتور حيدر خوجلي (شقيق الأستاذ حسين خوجلي الأكبر). فقد وضع لهم دكتور حيدر المناهج الدراسية. وكان يوصينا بالصبر عليهم ليَحسُنَ إسلامهم؛ أسوة بما حدث لجماعة (أمّة الإسلام) Nation of Islam بعد أن أصبح وارث الدين ابن أليجيا محمد زعيماً لها.
ويذكرنا دكتور حيدر بالتطور الذي حدث لمالكولم أكس.
وحقيقة يعود الفضل في فهم مالكولم للإسلام الحقيقي وابتعاده عن العنصرية لجهود دكتور أحمد صديق عثمان المقيم بأميركا الآن؛ وكذلك جهود الاستاذ عبد الله بدري (عليه الرحمة) والد الخلوق المهذب عاطف بدري الموظف بسفارتنا بواشنطن. وأيضاً ما بذله معه دكتور مالك بدري، رحمه الله، خلال زيارة مالكولم للسودان.
وكان إمام عيسى المهدي رجلاً مُخَلّطاً، إذ له كتب جمع فيها بين ما يقوله الإسلام وما تقوله المسيحية وما ورد في التوراة، ويضع على أغلفتها نجمة داؤود والصليب والهلال!!!
ولإمام عيسى فرقة جاز. فهو كقائد لتلك الفرقة الموسيقية اسمه (دكتور يورك).
وبنى إمام عيسى مسجداً سمّاه (جامع الكون) أسوةً بمسجد الأنصار في الجزيرة أبا. لكن إمامه كان صبياً لم يبلغ الحُلُم!!
وحين زاره الصادق المهدي في 1986 أو 1987 أخذه لغرفة آلاته الموسيقية، فنَفَر منه، بعد أن كان يَظُنُّ أن المهدية بلغت أميركا!!!
وبرز منذ العقد الماضي القيادي الشاب محمد حاج ماجد ، كشيخ حاز احترام المسلمين هناك ، ولم تستطع السلطات تجاوز مقامه السامي .
ومن بين قيادات المسلمين السود إمام سراج وهّاج ( وهذا اسمه هو منفرداً ) في مكافحة المخدرات ، بصورة لم تقدر عليها سلطات الشرطة الأمريكية في نيويورك ، وأصبح شخصية قومية .
وقد تميز بأميركا عدد كبير من النابهين يعملون بروفسرات بالجامعات ، وباحثين في شركات كبرى ومؤسسات حكومية مثل ناسا NASA ، شخصيات تجعلك فخوراً متباهياً .
يذكر التاريخ ويُؤكد الواقع أن الحكومات الأمريكية تُضيّق الخناق على كل زعيم من الأمريكان ذوي الأصول الأفريقية لا يخضع للخط العام؛ ويمكن أن تقتله، كما فعلت مع مارتن لوثر كنج رغم دعوته السِلْمِيّة.
أما مالكولم فقد ضاقت به ذرعاً حتى بعد ترك العنصرية، وأرجعه السودانيون إلى جادة الإسلام المعتدل.
كانت سلطات الأمن تخاف من تزايد شعبية مالكولم.
وقد ذكر إليكس هيلي في سيرة مالكولم الذاتية، أن مالكولم صَرَف مظاهرة قادها بإشارة من يده، فانصرفت الألوف التي كانت تتبعه. عندها قال مدير شرطة نيويورك:
This is too much power for one man:
“هذه قوة أكثر من اللازم لرجلٍ واحد”
السفير عبد الله الأزرق