إذا أغرت قوات “الدعم السريع” مكاسبها في ولاية دارفور خلال الأسبوع الماضي بالاستيلاء على كل السودان، كما صرح نائب القائد العام لهذه القوات عبدالرحيم دقلو، فيصح أن نسأل: ما هوية هذه القوات التي بدا أنها رتبت نفسها لحكم السودان؟
اقتصر فهمنا لهوية هذه القوات على سياستها، فخصومها يرونها حالة ارتزاق كاملة الدسم، بينما يعلق عليها آخرون ما تزعمه هي من خروجها لخلاص البلاد من الفلول (الإسلاميين أنصار نظام الإنقاذ) الذين حرضوا الجيش على حربها والقضاء عليها ليعودوا إلى الحكم، وقل أن تعثر على من يربط بين هويتها السياسة وهويتها كمؤسسة استثمارية عسكرية، ناهيك بربط أي من هاتين الهويتين بهويتها المهنية.
ونعني بالهوية المهنية عنصر الضبط والربط فيها الراكز في سلسلة قيادة من أعلى إلى أسفل. ولا أعرف تزكية للمهنية مثل تزكية جي أم كويتزي الروائي من جنوب أفريقيا في روايته “العصر الحديدي”. قال فيها إنه لم يمنع النظام العنصري في جنوب أفريقيا أن يهلك “الرفاق” (وهو ما كان يطلق على الشباب الذين صارعوه بقوة) عن بكرة أبيهم، إلا أن قوات أمنه، مهما قلت عنها، استعصمت بالمهنية. فعصمتها مهنيتها دون ألا تبقى من الرفاق دياراً.
وليس كسب “الدعم السريع” في الميدان مع ذلك مما يتعزز به، فقد خالطه من التعديات ما قالت به “السودان ور مونيتر” إن كسبها من هجوماتها هو مزيد من النهب من مدن تعاني تردي اقتصادها ونظامها الصحي، وأهلك الجوع أهلها المروعين من انفراط متزايد للقانون. وكانت هذه المنقصة في أداء “الدعم السريع” المهني في مركز دائرة خطاب الفريق أول حميدتي في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري. فحذر فيه جنده من التفلتات بالعدوان على حق المواطن والمساس بعرضه. وبدا وكأنه يرد على النقد الذي طال قواته عن احتلالها بيوت الناس، ونهبها أموالهم، والإساءة إلى عرضهم، ناهيك بالتطهير العرقي، مما وثقت له دوائر عالمية معنية بحقوق الإنسان والقانون الإنساني للحرب.
ولا نعرف كلمة صارت مضغة على فم حميدتي مثل “تفلتات” منذ دخل باب السياسة بعد ثورة 2018. ولا نعرف مع ذلك قوة مارست هذا التفلت بلا شفقة في حين واظب قائدها على إنكاره. ويسعى مع ذلك من وراء القانون لاستخلاص جنوده بفدية للمجني عليهم.
كانت حجة حميدتي دائماً أن قواته مقصودة بأطراف تريد أن تشينها في أعين الناس. فيصرف كل تهمة بالتفلت إلى هؤلاء المغرضين ممن أرادوا الإيقاع بينه وبين الشعب. وجاء بهذه الحجة في خطابه الأخير، فقال إن الفلول رتبوا منذ زمن طويل لدمغ قواته بالنهب والقتل والاغتصاب. فأطلقوا سراح كل المساجين بمعتادي إجرامهم في أول أيام الحرب ليعيثوا فساداً في الأرض وينسبوه لقواته. وزاد بقوله إنهم وقعوا على مخزن بأكمله مليء بملابس “الدعم السريع” طولاً وعرضاً لترتديه عناصر الفلول، فترتكب الموبقات، فينسبها الناس إليهم.
وبلغ من نكد سمعة النهب والقتل والاغتصاب عن قواته أن أنشأ حميدتي في الـ28 من يونيو (حزيران) الماضي محكمة ميدانية لمحاسبة المتفلتين والظواهر السالبة بقيادة اللواء عصام صالح فضيل، وهو من ضباط القوات المسلحة المعارين لـ”الدعم السريع” وبقي فيه عاصياً أمرها بعودته إلى صفها. ولا يعرف المرء المتظلم من “الدعم السريع” كيف يحمل ظلامته للمحكمة بعد. ولم يصدر منها كذلك تقرير عن حصيلتها بعد. وأوثق ما سمعنا عنها هي مساعي فضيل لرأب الصدع بين “متفلتين” من جنده وجماعة من عرب الكبابيش بعد مقاتل بينهما. فقتل الدعامة (أي منسوبو “الدعم السريع”) لواحد منهم رفض أن يتنازل لهم عن سيارته. وجلس عصام إلى الطرفين وتكفل عن “الدعم السريع” بدفع الديات عنهما. وورد أخيراً خبر غير مؤكد أن فضيل نفسه تعرض لمحنة خلال أداء واجبه.
ونواصل..
عبد الله علي إبراهيم