السفير عبد الله الأزرق يكتب:
المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (23)
الجاسوسية والدبلوماسية (5)
طُوبي لِمَنْ أخذ الدبلوماسية بحقها، وأدرك ما فيها من تحديات ومخاطر ودركات. وتَرِبت يَدَا من ظن أنها ربطات عنق وهندام أنيق وابتسامات يوزعها يَمْنَةً ويَسْرَةً في حفلات الكوكتيل، ثم يذهب إلى أهله يَتَمَطّى.. ومن يفعل هذا فحسب فهو يظلم المهنة ويظلم الوطن.. فكم في الدبلوماسية من مخاطر وصلت حد إزهاق أرواح.
كان عبد الباقي محمد حسن، رحمه الله، سفير السودان في مقديشو في 1993. وكانت الفوضى قد ضربت أطنابها في الصومال وبُولغ فيها أيّما مبالغة. وكان عبد الباقي رجلاً سمحاً بكل ما تحمل العبارة، ويتنافس في تهذيبه وتواضُعِه مع سفراء آخرين مثل السفير عوض مُرسي والسفير المُثقف الكريم عبدالله عباس. فبعض الناس حين يبلغون هذا المنصب الرفيع لا تقوى نفوسهم على تحمل عِبْئهِ، فتراهم ينتفخون كالهر يحكي انتفاخاً صَوْلَةَ الأسد. طِبْتَ حيّاً وميتاً سعادة السفير.
قَد مَاتَ قَومٌ وَمَا مَاتَت فَضَائِلُهُم
وَعَاشَ قَومٌ وَهُم فِي النَّاسِ أَموَاتُ
وحدث أن اختطفته جماعة مسلحة، وأخفته مقيداً عندها. فذهب السفير دكتور مطرف صديق ليفاوضهم.
وهناك التقاه نفر من رجال كرام. التقاه ثلاثة سفراء كانت الإنقاذ ظلمتهم ففصلتهم من الخارجية هم:
السفير دكتور بابكر علي خليفة
والسفير كمال كبيدة
والسفير عبد القادر أحمد الشيخ جحا . و أعادت دكتور بابكر للعمل ؛ وعرضت العودة لاحقاً للآخرين فلم يعودوا .
كانوا كباراً بحق.
ما صَدّهم أن الإنقاذ فصلتهم من أن يمدوا أيادي بيضاء لعون رجل من رجال الإنقاذ ليطلق سراح زميل فاضل كريم.
يقول دكتور مطرف مُمتنّاً: إنهم احتضنوه ويَسّروا أمره، بل وعرضوا عليه أن يوفروا له حماية يسددون هم نفقاتها ، فشكرهم واعتذر لهم بلطف .
وهكذا يكون الرجل الضرب: لا يضحي بالوطن من أجل لُعاعة، أو يوالي قرنق نكاية في حكومة:
وفي الماء عذبٌ قد علمتَ وآسِنٌ
وفي الناسِ أيضاً مُخطىءٌ ومُصيبُ
فلله رجال.
وأفلح دكتور مطرف في إطلاق سراح السفير.
وكأنَي بدكتور مطرف وهو يجتهد في إنقاذ السفير رغم المخاطر، وهو رجل مشهور بشجاعته وحِنْكَتِه ، يتمثّل بقول الشاعر:
لعَمْرُكَ ما الرزيّة فقدُ مالٍ
ولا فرسٌ تموت ولا بعيرُ
ولكن الرزيّة فقد حرٍّ
يموت بموتِه خلقٌ كثيرُ
وكان زميلنا السكرتير الثالث حُسني مصطفى في زيارة رسمية لجوبا مرافقاً لبعثة الاتحاد الأفريقي، وذلك في فبراير 2008. وكان جنوب السودان في الفترة الانتقالية بموجب اتفاقية سلام نيڤاشا. وكانت المفاجأة المذهلة أن حكومة الجنوب اعتقلته وسجنته في زنزانة قذرة لخمسة أسابيع دون أن يخطئ أدنى خطأ، وغير آبهة بحصانته. وهذا سلوك لا تفعله إلّا الدول التي لا تُراعي ذِمّةً ولا عهداً.
وتحفظ الذاكرة السودانية أن جماعة أيلول الأسود الفلسطينية قامت في 1 مارس 1973 وذلك خلال حفل دبلوماسي أقامه السفير السعودي بالخرطوم، لوداع قائم أعمال السفارة الأمريكية كيرتس مور، واستقبال السفير الأمريكي الجديد كليو نويل، قام هؤلاء المسلحون بإمساك السفيرين الأمريكيين وغاي ايد القائم بأعمال السفارة البلجيكية والسفير السعودي، مطالبة بإطلاق سراح الفلسطينيين المعتقلين في إسرائيل. ولما رفض الرئيس نيكسون مطالبهم، قتلوا السفيرين الأمريكيين والقائم بالأعمال البلجيكي.
وفي 19 ديسمبر 2016 أطلق رجل تركي النار على السفير الروسي وأرداه قتيلا.
وقائمة السفراء والدبلوماسيين الذين قتلوا أو خطفوا في كل أنحاء العالم طويلة.
من ثم فإن المخاطر ليست وقفاً على تجسس وملاحقات ومضايقات أجهزة المخابرات.
ولمصلحة أي دولة فيجب أن تكون العلاقة بين جهاز الدبلوماسية ومنظومة الأمن والمخابرات تعاونية Cooperative وليست تنافسية Competitive؛ ذلك لأن عدم تكاملهما يرسل رسائل متضاربة ومتناقضة لقيادة الدولة فلا تقوى على اجتراح سياسات صائبة. بل قد تتخذ قرارات تضر بمصالح الدولة.
وقد أشار تقرير لجنة 11 سبتمبر ( 9/11 Commission Report ) أن من بين جوانب الإخفاق المهمة التي أفضت لما أصاب أميركا يومها ، هو ضعف التنسيق والتناغم بين أجهزة المخابرات وبعضها وكذلك بينها والخارجية . أعتقد أن بعض العاملين في أجهزة المخابرات يصابون بمتلازمة الغطرسة وادعاء أجوف أنهم ذووا معرفة بكل شيئ !!!
كل من الدبلوماسيين ورجال المخابرات يعملون في حقل الأمن القومي، الذي تعددت جوانبه مؤخراً . وكلا الطرفين يحرصان على السرية؛ ويستخدمان نفس درجات السرية:
سري.. سري للغاية.. سري للغاية وشخصي.. سري للغاية وشخصي ولا يُفتح إلّا بواسطته.. سري للغاية وشخصي وخزنة، ولِعَيْنَيْه for his eyes only.
ويجب مراعاة أن أساليب وأدوات الدبلوماسية تختلف عن تلك التي يستخدمها جهاز المخابرات.
فرجل المخابرات قد يتطلب عمله التخفّي، وقد يلجأ لأن يعمل تحت غطاء عميق deep undercover ..
وكمثال لهذا التخفّي العميق نذكر أن عنصري الموساد:
مايك هراري، مدير وحدة الاغتيالات، وشبتاي شافيت الذي أصبح مديراً للموساد فيما بعد؛ دخلا السودان بجوازات أوروبية، وكصحفيين، لتغطية فعاليات قمة الخرطوم 1967، التي أصدرت (لاءلات الخرطوم الثلاث) الشهيرة. ونشرت الموساد بعد سنوات صورة لهما وهما بجانب الرئيس الأزهري ورئيس الوزراء المحجوب وهما يستقبلان الرئيس اللبناني شارل الحلو!! وكان هراري حامل كاميرا يصور بها المشهد.
وهناك دولة عربية تنكّر رجال مخابراتها في السودان في صورة بائعي أواني، وخبراء ري، ومدربين في معهد كمبيوتر وأساتذة جامعة، وبائعي فلافل وفول ونادلين، وما إلى ذلك.
ويعمل كل من الدبلوماسي ورجل المخابرات على المصادر المفتوحة، ولكن رجل المخابرات يعتمد بصورة أكبر على المصادر السرية؛ لكن هذا لا يعني أن الدبلوماسي لن يبحث عن المصادر السرية أو أنه سيرفضها إن وجدها.
وعادةً لا يعمل الدبلوماسي في العمليات السرية covert operations ؛ فهذا مجال يليق برجل المخابرات؛ لأن العمليات السرية قد تتطلّب سلوكاً فيه درجة من العنف coercive ؛ مثل:
التخريب، وسرقة المعلومات أو التقنية، الفعل السياسي السري، والدعاية ضد البلد المستهدف والانقلابات العسكرية، ورعاية تمرد في دولة ما، والقتل المستهدف targeted killing وعمليات التأثير.
كل من الدبلوماسي ورجل المخابرات يجمعان المعلومات عن البلد المضيف. لكن إذا كانت المادة التي جمعت ذات طبيعة حساسة للدولة والطريقة التي جمعها بها (مثلاً عبر تجنيد ضابط جيش أو أمن) فهذا ما يمكن أن يعرِّضه للمشكلات.
المعيار إذن ليس هو تجسس الدبلوماسي وإنما معرفة الحدود limitations.
كلاهما يستغل أن وثائق ومحفوظات archive السفارات مصونة ولا تنتهك حرمتها inviolable بالمصادرة أو الفتح من قبل الدولة المضيفة، ويشمل ذلك بالطبع الحقيبة الدبلوماسية.. ولكن أجهزة المخابرات في كل الدول تفتح الحقيبة سراً، متى ما وجدت لذلك سبيلا.
في بعض الأحيان يتجاوز الدبلوماسيون الحدود التقليدية المعهودة في عملهم فيمارسون أعمالاً ضارة بالبلد المضيف، مثل حث الجماهير على ما يبعث على فقدان الأمل في نظام سياسي قائم persuade political disenchantment، بغية تغييره.
وهذا ما فعله دبلوماسيون غربيون وخليجيون لتغيير نظام البشير، و لازالوا يمارسون ضروباً شتى من العبث والتدخلات حتى اليوم.
السفير عبد الله الأزرق