الدعم السريع ورحلة البحث عن مشروع… 2من2

خلاصات:
إذا استثنينا بعض التباينات والتفاصيل الدقيقة التي تميز ظاهرة القذافي عن ظاهرة حميدتى، فإن هناك طريقتين يلتقيان فيهما: طريقة الصعود إلى السلطة وطريقة السقوط منها. فكما أن العقيد القذافي صعد إلى السلطة واحتفظ بها بعد اختراق وتفكيك متعمد للمؤسسات العسكرية النظامية، واستبدالها بعصبية عشائرية موالية، فقد صعد الفريق حميدتى بالطريقة ذاتها. وقد توفرت له من أسباب القوة العسكرية والمالية والدعم الاقليمي ما لم يتوفر للعقيد القذافي أو للرئيس عمر البشير. ولولا بعض الملابسات وردود الفعل غير المتوقعة التي أحبطت خطته في اللحظات الأخيرة لكان من الممكن أن يستولى على السلطة السياسية في السودان ويحتفظ بها لعشرات السنين.

أما العوامل التي أدت لسقوط الفريق حميدتى فهي العوامل ذاتها التي أدت لسقوط العقيد القذافي، وهي: هشاشة الفكرة، وتضارب المؤسسات، وهشاشة القاعدة الاجتماعية التي يقوم عليها النظام. فالفكرة الأيديولوجية التي تضمنها الكتاب الأخضر كانت فكرة فطيرة لم تنبع عن قناعات شعبية ولا تعبر عن واقع. أما المؤسسات البديلة التي استحدثها العقيد (بعد التفكيك المتعمد لمؤسسات الدولة العسكرية والمدنية) فكانت تشكو من تناقض الأهداف وضعف السياسات، وتقلب رغبات الزعيم. أما العامل الثالث فيتعلق بهشاشة القاعدة الاجتماعية التي يقوم عليها النظام، فهي قاعدة عشائرية ضيقة، تحيط بها شبكات من أصحاب المصالح، ويتحكم فيهما من الداخل زعيم واحد مع أفراد أسرته.

فاذا اسقطنا هذا النموذج على تنظيم قوات الدعم السريع فسنجد حضوراً كبيراً لكل العوامل التي أدت لانهيار نظام العقيد. فان سقط نظام العقيد بسبب هشاشة الفكرة فإن النظام الذي شيده حميدتى لم يكن يستند على فكرة خاصة به، بقدر ما كان يتجاوب من حين لآخر-وبشيء من عدم الجدية- مع بعض الأفكار التي تطرح عليه من قبل حلفائه في الداخل أو الخارج، أما مؤسسته العسكرية-الأمنية-الاقتصادية التي أقامها فكانت في حالة تضارب مستمر مع مؤسسات الدولة القائمة، وكادت أن تقتلع المؤسسات الرسمية للدولة من جذورها، مما جعل الصدام بينهما أمراً محتوماً.

أما العامل الثالث والأخير فهو يتعلق بهشاشة القاعدة الاجتماعية التي يستند عليها، فهي هشة لأنها تقوم على مجموعات عشائرية محدودة، وتديرها من الداخل عائلة واحدة، ويقف على رأسها زعيم أوحد هو الفريق حميدتى. أما الشرائح الاجتماعية التي تلتف حول هذه القاعدة فهي شرائح تبحث عن مصالحها الخاصة-سواء كانت متعلقة بمراكمة الثروة، أو بالاقتراب من دهاليز السلطة. وفى كلتا الحاتين فان مثل هذه الشرائح لا يتوقع منها أن ترفع أصبعاً واحداً للدفاع عن حميدتى وجنوده إذا احتاجوا لمن يدافع عنهم.

بيد أن شراسة القتال والإستماتة التي أبدتها مجموعة حميدتى العشائرية في حرب الخرطوم الأخيرة لا يمكن انكارهما. ورغم هذه الشراسة القتالية إلا أنها فقدت جل مقاتليها وقادتها الميدانيين. وهذا الأمر سيمثل خسارة كبيرة للجهات الداخلية والخارجية التي كانت تراهن على انتصار قوات الدم السريع؛ كما سيمثل صدمة نفسية أكبر لمن تبقى من هذه القوات. وحيث أنها لا تملك رؤية ولا قيادة ولا تعرف من هو العدو فليس أمامها من خيار غير الاستسلام، ولكن ليس من المستبعد أن تزداد بعض عناصرها تمسكاً بنظرية الهامش والمركز والسودان الجديد. كما أنه من غير المستبعد أن تدفعها الهزيمة العسكرية والعصبية العشائرية إلى الاندفاع في اتجاه الأصولية الاثنية (ethno-fundamentalism)-كما وقع في حالات مماثلة- حيث يحاول الأصولي الاثني أن يفسر التاريخ من منظور الهيمنة المركزية لمجموعة عرقية معينة على المهمشين من العرقيات الأخرى. ويرى أن هناك قوميات متنفذة ظلت تسيطر على الثروة والسلطة لفترات طويلة، وأنه قد آن الأوان لإزاحتها بالقوة وافساح المجال للقوميات الأخرى ممن كان على الهامش. وهذا نوع من النظر الأحادي قد يعيق أي محاولة جادة للبحث عن إطار قومي أوسع يتجاوز العصبيات العرقية ويحقق العدالة للجميع.

أما دعاة الحرية والتغيير الذين ينادون بتحطيم السودان القديم والعودة إلى منصة التأسيس، فلم يبق أمامهم-بتقديري- غير خيارين: التراجع الاستراتيجي أو التمادي في تكرار تجربة المواجهة المسلحة. والخيار الأول يقتضي مراجعة المواقف وتغيير الاستراتيجية- خاصة بعدما شاهدوا نموذج السودان “الجديد” الذي قدمته قوات الدعم السريع في الحرب الأخيرة، وبعدما رأوا صمود عناصر القوات السودانية المسلحة وتماسكها، وما حظيت به من تأييد شعبي غير مسبوق. أما خيار التمادي في المواجهة فيعنى التشبث بفكرة تفكيك السودان القديم وإعادة بنائه من الصفر. ولكن هذه الفكرة تحتاج إلى أرض محررة وإلى جيش يقاتل من أجلها وإلى حاضنة اجتماعية تتبناها، وهذه أمور ليست متوفرة الآن لقوى الحرية والتغيير بعد خروج قوات الدعم السرع من المشهد. وكل ما هو متاح لديها الآن هو أن توثق علاقاتها مع بعض العواصم الأجنبية، وأن تنتكس إلى نوع من المعارضة الخارجية الناعمة. وهو نوع من المعارضة يحول أصحابه تلقائياً إلى جماعات وظيفية يدعمها الخارج ويحافظ على وجودها مقابل أن يستخدمها للدفاع عن مصالحه بالطريقة التي يراها وفى الوقت الذي يريد.

أما الحقيقة المرة التي يحتاج جمهور المواطنين إلى قبولها والتعايش معها فهي أنه لا يوجد شرٌ مطلق يسمى السودان القديم، كما لا يوجد مجتمع فاضل يسمى السودان الجديد. كل ما لدينا هو هذا السودان الفقير المشتت والمثقل بالديون وبالجراح. فإما أن نتواضع ونعود إلى “كلمة سواء” بيننا، فنجمع شمله ونضمد جراحه ونعكف على إصلاحه-مع ما يستلزم ذلك من صبر وتسامح وحكمة-وإما أن ننخرط في موكب الكراهية والمفاصلة والتحطيم، فنتحول من ثم إلى مجرد شعب لاجئ ومشرد يبحث عن المأوى والطعام. ولا قوة إلا بالله.

د.التجاني عبد القادر حامد

Exit mobile version