من أشد أمراض الثقافة السياسية فتكا شمولية شائعة في التفكير السوداني تعجزه عن تمعن فكرة ما من غير ضوضاء الحمولات المسبقة عن كاتبها ومن ثم تعميق الافقار الفكري وتبني استنتاجات خاطئة.
هناك فرق بين فكرة والقائل بها. الفكرة تقيم فقط بميزاتها وعيوبها إذ يموت كاتبها في لحظة ما علي سرير ميشيل فوكو.
فمثلا لو اتفقت مع الامام الصادق المهدي في حربه ضد ختان البنات في سياق حديث عن القضية يصير من العبث الانصراف عن قضية الختان رهن النقاش إلي هبالة الابتدائي ودور الامام في الدعوة لدستور اسلامي أو رفضه الانصياع لقرار المحكمة العليا.
لان أفضلية الامام أو عيوبه قضية أخري لا يجوز استخدامها لقتل النقاش حول موضوع الختان. وفي الزمان والمكان متسع لنقاش الامام وتاريخه لمن أراد.
إذن تحويل محور النقاش من قضية محددة إلي تقيم لشخص مرض يهزم تطور الفكر والسياسة.
المرض الاخر هو الاستنتاج الشمولي المغلوط الذي يصل إلي أن اتفاقي مع الامام في رفضه للختان يعني بالضرورة انني اتفق مع كل ما قال وما فعل في حياته ويضعني في خانة المروجين لنهج الصحوة والدستور الاسلامي والسندكالية وطرد الحزب الشيوعي من البرلمان ومن أنصار تفسير البوخات للثورات.
واشد ضلالا وعدم نزاهة من هذا الاستنتاج أنه بما انني علي اتفاق مع الامام ضد الختان أصبح مغفلا نافعا أو مثقفا نافعا في خدمة نهج الصحوة وايديلوجيا شبه الاقطاع والزعامة المنقولة جينيا بلا مؤهلات. هذا استنتاج معتوه تماما ياتي إما من عجز عن التفكير أو فهلوة لكسب سياسي غير مشروع.
ما قلناه عن الامام ينطبق علي غيره من المفكرين إذ أن الاتفاق مع جهة أو شخص في جزئية لا يعني الأتفاق معه علي أي شئ اخر ما لم أصرح باتفاقي معه في هذا الشيء الأخر.
كما أن اتفاقي مع بوذا في قضية واحدة لا يجعلني بالضرورة بوذيا واتفاقي مع شيخ صوفي لا يجعلني من مدرسته في ما عدا ذلك واتفاقي مع المسيح في أن يرحموا المراة من رجم لا يجعلني مسيحيا.
وان الوعي بانه بحكم التاريخ فان المعرفة والحكمة تاتي في لبوس تختلف – فهي أحيانا تاتي من لاهوت مسيحي أو اسلامي أو بوذي أو الحادي – وان قبولي بحكم منها لا يعني بالضرورة انتمائي الكامل لأي من حواملها سواء أن كانت لاهوتية أم علمانية أم الحادية أم بين بين.
واتفاقي مع الترابي في ان كتاب القذافي الأخضر ملئ بالهرطقة والاخطاء النحوية لا يجعلني ترابيا ولا يجعلني من المبررين لبيوت أشباحه وانقلاباته ولا يجعلني مثقفا نافعا لمشروعه الحضاري.
كما أن خلافي مع كاتب في قضية محددة لا يعني إختلافي معه في قضايا أخري ما لم أصرح بذلك.
وحده العقل الشمولي – في هروبه من الفكرة إلي الشخص أو الكيان – يستنتج أن اتفاقك في جزئية يعني اتفاقك الشامل مع الداعي بها. وهكذا يدور حوار أبدي حبيس عن أحكام توراتية شمولية وشاملة سلبا أو ايجابا عن أشخاص أو كيانات ونفقد المقدرة علي التدقيق في فكرة معينة حتي لو كانت باهمية حاسمة حسم الحرب والموت.
وبما اننا في سنة أولي تفكير علينا أن نردد ما هو واضح من القول بان الميليشيا المملوكة لاسرة والممولة من الخارج ليست بديلا مناسبا للجيش السوداني مهما كانت عيوب هذا الجيش التي ظللنا نكتب عنها طوال حياتنا.
بامكانك أن تختلف مع راينا وتثبت عيبه وتثبت أن المليليشيا بديل مناسب لجيش معيوب وبامكانك أن تساوي بهكذا ميليشيا والجيش ولكن من الحماقة والغباء وعدم الأمانة أن تدعي هكذا موقفي يضعني في خانة مغفل نافع أو علي اتفاق شامل وشمولي مع كل ما جاء به من حمل هذا الراي لو كان كوز أو كان مثل د. عشاري أو د. محمد سليمان أو د. محمد جلال هاشم أو د. قصي همرور أو د. عبدالله علي ابراهيم أو د. عمرو صالح ياسين أو الروائي بركة ساكن أو كوكبة من القونات.
معتصم اقرع