في أغسطس قضيت ستة أيام في جنوب مدينة الخرطوم، وكنت قد زرتها لإخراج عَفش منزلنا المهدد بالسرقة بعد اقتحامه من عناصر المليشيا وتحطيم جميع أبوابه. كانت الزيارة في مجملها مربكة ومثيرة للاضطراب والشجون؛ فقد طال الخراب كل شيء في المدينة التي تحولت إلى مدينة أشباح، وتبدلت أنماط العيش فيها لتحل محلها أنماطٌ تنتجها وترعاها المليشيا؛ إذ تعطلت معظم جوانب الحياة الاجتماعية وأصبح نمط العمل السائد هو تجارة المنهوبات في أسواق دقلو المنتعشة.
في الطريق إلى الخرطوم ظل بعض ركاب الحافلة يجأرون بالشكوى من تنميط سكان مناطقهم ووصمهم بالسرقات التي طالت المناطق المجاورة لهم، حتى وصلنا منطقة شرق النيل التي استقبلتنا بأحد أسواق دقلو الذي وجدوا فيه عزاءاً لهم؛ فالجميع يتبادلون المسروقات. بعدما دخلنا مدينة الخرطوم وفي أولى نقاط التفتيش حيَّانا أحد عناصر المليشيا ورحب بعودتنا، فقال الصبي الجالس جواري: “شكلوا ما من ناس الخلا”. لم استوعب كلامه جيداً إلا بعد قضاء عدة أيام في المدينة.
في نقطة التفتيش الثانية تعرضت للضرب والاحتجاز لدقائق قبل أن يُخلى سبيلي. واصلت طريقي مستغلاً المواصلات الداخلية والتي تم تعديل مساراتها. أخبرت الركاب بوجهتي فدلوني على ممر أمن يجنبني الشفشفة المحتملة (النهب)، كان طول الممر حوالي ستة كيلومترات يمر عبر أحياء لم يغادر كل سكانها. في الطريق الطويل إلى المنزل هالني مشهد البيوت والمحلات التجارية المنهوبة، وبدى لي أن الحرب ليست سوى عملية نهبٍ كبيرة. في الطريق صادفت مجموعات من النساء والأطفال وهم يحملون الأغراض المسروقة من المنازل، كما صادفت مجموعات من السكان الذين يقومون بنقل الماء من خطوط الإمداد الرئيسية التي أصبحت المصدر الوحيد للماء بعد انقطاع الكهرباء الممتد عن المنطقة. مررت كذلك جوار مسيد الطريقة “الركينية المحمدية” الذي أدهشني صوت المدائح الصادرة عنه، وزاد دهشتي بعدما ترددت على زيارته فالطريقة تقول عن نفسها أنها: “صوفية سلفية منهجها الوسطية، جمعت بين نفس التأصيل وروح التجديد”، والتي يبدو أنها محاولة للتوفيق بين الصوفية والسلفية التي لا أدري مدى نجاحها.
خلال فترة إقامتي ظللت أتردد على الأسواق المنتشرة في منطقة جنوب الحزام، حيث يتم تبادل الخدمات وتداول السلع والمنهوبات؛ فقد كانت المكان الوحيد الذي يمكن أن أجد فيه معلومات عن أسلم الطرق لإخراج عَفش المنزل وشاحنةً لنقله. هناك شهدت عدة صفقات تم فيها تداول الأغراض والبضائع المنهوبة، وأتيحت لي الفرصة للاختلاط بالمتواجدين في تلك الأسواق خصوصاً سوق الصهريج (محطة تحولت إلى سوق)، والاستماع إلى قصصهم: أحد الصبية يتباهى ببيع معلومات عن منازل أفراد الجيش للدعم السريع، وصبيٌ آخر يعمل في بقالة والده تحت حماية أقاربه المنتمين للدعم السريع بينما يرابط أخوه في سلاح المدرعات ضمن قوات الجيش. أحد الشباب يبيع العصير بعدما فقد عمله. رجل خمسيني يبيع الثلج الذي يعده في المنزل بعدما توقف عمله في أحد دواوين الخدمة المدنية. امرأة خمسينية تبيع الشاي لإخراج ابنائها الذين خيَّروها بين مغادرة المدينة والانضمام للدعم السريع، وامرأة سبيعينة تبيع الزيت وأحياناً الطعام لتعيل أحفادها الأيتام الذين جاهدت في تربيتهم بعد وفاة ابنتها.
اثناء إحدى الطلعات الجوية للطيران الحربي تجمعت مقاتلات الدعم السريع وسط السوق وبدأت في إطلاق مضادات الطائرات، الأمر الذي أثار حالة فزع كبيرة. لدى اختبائنا في أحد الدكاكين المجاورة، طالبنا فرد المليشيا الذي كان يشرب القهوة بالهدوء لأن الطائرة لن تضرب السوق. بعد مرور الطائرة أخبرته سبب تواجدي في الخرطوم وطلبت منه معلومات عن الإجراءات اللازمة لنقل العَفش، علمت منه أن عَفش المنازل لا يحتاج إلى إجراءات خاصة سوى المبالغ التي تدفع عند المرور بنقاط التفتيش.
قبل مغادرتي بيومين اضطررت إلى زيارة سوق الكلاكلة لصيانة هاتفي، هناك اعترض طريقي عناصر المليشيا الذين اصروا على عملي في استخبارات الجيش. أثناء تحقيقهم الإرهابي قاموا بضربي وربط يديَّ بحبل التقطوه من الجوار، وبدأوا في التجمع حولي قبل أن ينقذني فرد من الشرطة العسكرية التابعة للدعم السريع والذي أمروه باقتيادي إلى أمير الكلاكلات -الرزيقي وفق افادتهم- للتحقيق. قام فرد الشرطة العسكرية بتسليمي لإحدى المقاتلات المارة التي تجولت بي في الأحياء المحيطة بالسوق قبل أن يُخلي قائدها سبيلي. عند عودتي إلى السوق لأخذ هاتفي التقيت أحد الذين اعترضوا طريقي، وطلب مني ارشاده إلى أماكن المخازن والمحلات التي لم تنهب بعد، فهو جديد في المدينة.
في جنوب الخرطوم تنتشر مجموعات الإسناد التي تم تجنيدها من داخل الخرطوم، والمجموعات القادمة من خارجها، وفي منطقتنا تحديداً تنتشر مجموعة مقاتلة من أبناء المسيرية قادمة من منطقة خيرسان. تُعرف هذه المجموعة بالمافيا وتشتهر بالنهب وقطع الطريق وفق إفادة سائق الشاحنة الذي تعرف على عناصر المجموعة عند مرورنا بهم، وكان قد ساكنهم حينما كان يعمل في نقل الفحم من تلك المنطقة.
عند الخروج من المدينة تتحول نقاط التفتيش التي تقيمها المليشيا إلى بوابات تدفع مقابل المرور بها مبالغ خاضعة للتفاوض تحت التهديد أحياناً، ويطلق على هذه المبالغ “حق الطريق”. كان خروجي سلساً نوعاً ما؛ فقد صادف مروري بأكثر نقاط التفتيش تعنتاً تحليق إحدى طائرات الجيش. غادرت ولاية الخرطوم بعد المرور عبر عشرة نقاط دفعت في ستة منها ما مجموعه ستون ألفاً، أما في ولاية الجزيرة فلم أجد صعوبات تذكر في المرور من نقاط التفتيش التابعة للجيش سوى الابتزاز الذي تعرضت له من أحد الجنود عند أخر نقطة تفتيش، والذي ساومني بين إنزال جميع العَفش والدفع مقابل المرور ما اضطرني لدفع أربعة ألاف.
كانت الزيارة في مجملها محفوفة بالمخاطر، مربكة ومثيرة للاضطراب. فبينما كانت الحركة في المدينة تحمل في طياتها مخاطر تترى، كان عدم الحركة يعني مواجهة مخاطر أخرى. أما ناس المدينة فقد أثاروا لديَّ مشاعر مختلطة؛ فصبر ومكافحة أغلبهم مثيرة للإعجاب، أما انتهازية ووضاعة بعضهم فمثيرة للسخط والاستياء، والجميع يجاهد بكل السبل لكسب العيش على أمل النجاة في ظل واقعٍ يشوبه الخطر والحذر.
كانت اللحظات الأخيرة في المنزل بعد تفريغه من كل محتواه والاستعداد للمغادرة أكثر اللحظات إرباكاً؛ فالمنزل الذي ضم أسرتي ذات يوم أصبح أثراً بعد عين، وتملكتني رغبةٌ في التداعي تلاشت مع صيحات سائق الشاحنة المستعجل للمغادرة. غادرت المدينة حزيناً مغبوناً أوزع اللعنات على كل شيء.
Mohamed Altaib