🔹 في بداية العام الحالي، كتب جوزيف مسعد، الأستاذ بجامعة كولومبيا العتيدة، مقالاً مثيراً عن خيانة الصفوة الليبرالية العلمانية. أتى المقال بعنوان “الليبراليون العلمانيون دمّروا الانتفاضات العربية. لا تدع ذلك يحدث مرة أخرى”.
🔹 أهم النقاط التي يتطرّق لها المقال أن الثورات أُهدِرَت لأن الصفوة الوارثة تجاهلت المطالب الاقتصادية للثورات وتحالفت مع الاستعمار وتبنّت وجهة نظره وضبطت رقصتها على إيقاعه.
🔹 والسودان ليس استثناءً إذ يتم تجاهل المطالب الاقتصادية للثوار وتتدهور الأوضاع الاقتصادية إلى هاوية هي الأسوأ في التاريخ الحديث. ويظل تهميش قضايا المعاش وعدم وقف النزيف الاقتصادي وتفاقم الفقر هو كعب أخيل الذي تتسرّب عبره فلول الردة وتفكك الوطن، إذ يترتّب عليه تفشي الخلافات بين المجموعة الحاكمة وغضب شعبي قد يتم توجيهه إلى ما لا يحمد عقباه.
🔹 وفي منتصف ثمانينات القرن الماضي، حذر أستاذ الاقتصاد الأعلى قامة، علي عبد القادر علي، أن تبني اقتصاديات صندوق النقد بلا فحص سيُفاقم المعاناة، ومن المرجح أن يجهض الديمقراطية الثانية وقد كان. وما أشبه الليلة بالبارحة.
🔹 وعلى مستوى المشهد الإقليمي بعد أكثر من ثلاثة عقود، يُعيد البروفيسور مسعد ما قاله عالم الاقتصاد السوداني الأبرز.
أدناه ملخص لأهم ما جاء في مقال بروفيسور جوزيف مسعد:
🔹 قبل إطلاق النار علي الرسول وتجاهل الرسالة، نسارع لملاحظة أن البروفيسور مسعد تقدمي، علماني من أصول مسيحية.
🔹 إلى جانب الديكتاتوريات ورعاتها الغربيين، كان الليبراليون العلمانيون العرب أكثر القوى الرجعية المعادية للديمقراطية في السياسة العربية في العقود الثلاثة الماضية.
🔹 مضى عقد على الانتفاضات العربية ضد النظام النيو ليبرالي الذي ترعاه الولايات المتحدة وأوروبا وضد الطغاة العرب الذين خدموا المصالح الرأسمالية وقمعوا الحقوق الاقتصادية والسياسية والمدنية لشُعوبهم.
🔹 نجحت القوى الغربية في نهاية المطاف في الإطاحة بمعمر القذافي، وسلب ثروات البلاد، وتدمير ليبيا في حرب لا نهاية لها سوى سرقة النفط الليبي المستمرة. على الرغم من فشلهم في الإطاحة ببشار الأسد، إلا أنهم تمكّنوا من تدمير سوريا وإغراقها في مذابح مستمرة، مع سقوط مئات الآلاف من الضحايا.
🔹 تلعب الأذرع الأخطبوطية الغربية دورًا في كل بلد عربي، كما هو الحال في جميع أنحاء العالم – وكان لها دور حاسم في تحقيق نتيجة، إن لم يكن بداية، بعض أو كل الانتفاضات العربية. لكن دورها لم يكن هو الدور الحاسم الوحيد. مصير الانتفاضات العربية يسأل عنه من زعموا أنهم قادوا التظاهرات، والذين جاءوا للتحدث باسمها وتحديد اتّجاهها.
🔹 تتنافس في الساحة قوتان إحداهما نيوليبرالية اقتصادية يقودها ليبراليون علمانيون ومثقفون وناشطون من الطبقة الوسطى وبعض حلفائهم من رجال الأعمال من ناحية، ومن الناحية الأخرى نيوليبرالية سياسية ويقودها مثقفون وناشطون إسلاميون من الطبقة الوسطى وحلفاؤهم من رجال الأعمال.
🔹تتحدّث المجموعتان المتنافستان لغة غربية عن ليبرالية وحقوق إنسان وحقوق سياسية. لكن كلاهما ابتعد عن القضية الأساسية للحقوق الاقتصادية، باستثناء الدعوة إلى حلول خجولة للتخفيف من الآثار الأكثر تطرفاً للفقر الذي تنتجه النيو ليبرالية.
🔹 لم تتحدث تلك القوى المتصارعة أبدًا، على سبيل المثال، عن إعادة توزيع الأراضي (بينما أُعيد توزيع الأراضي في مصر في الخمسينيات)، وتأميم البنوك والمصانع، ووضع قيود رئيسية على هروب رأس المال أو زيادة الضرائب على الأغنياء، أو حتى التوسع في الخدمات الاجتماعية الحكومية. الراديكاليون منهم، مثل نظرائهم الغربيين، اعتقدوا أن الدعوة إلى حد أدنى للأجور هو نوع من أنواع الاشتراكية الأكثر تطرفاً.
🔹 على عكس الليبراليين العلمانيين الذين قدموا خطابًا فارغًا فقط، قدم الليبراليون الإسلاميون جمعياتهم الخيرية، وكذلك بنوكهم ومدارسهم ومستشفياتهم “الإسلامية” النيو ليبرالية للتخفيف من آثار الإفقار بالنيو ليبرالية.
🔹 لكن كان لكل من وجهي العملة النيو ليبرالية رعاة أجانب مختلفون. الليبراليون العلمانيون، الذين زعموا أن الانتفاضات كانت من صنعهم وأن الليبراليين الإسلاميين كانوا متطفلين، دعمتهم وسائل الإعلام الغربية والمنظمات غير الحكومية وقادة أمريكا.
🔹 تمتّع الليبراليون الإسلاميون بشكل أساسي بدعم من قطر التي اعتبرت أن الإخوان المسلمين سيكونون البديل الأكثر أمانًا للديكتاتوريات القائمة خارج منطقة الخليج. افترضت قطر أن جماعة الإخوان ستهدئ من غليان المحتجين بخطابها السياسي الليبرالي المتدين، دون المساومة على النظام الرأسمالي النيو ليبرالي.
🔹 نظرًا لأن مشروع كلا المجموعتين المتصارعتين كان لاحتواء الاحتجاجات وتوجيهها إلى أهداف سياسية واقتصادية صديقة للإمبراطورية الغربية، لم يكن هناك تناقضٌ في التحالفات التي شكّلوها. في الواقع، سعى كلا الطرفين للحصول على مؤيدين حلفاء في الماضي دعموا الديكتاتوريات السابقة.
🔹 على الرغم من التحالفات متعددة الطبقات التي ميّزت الانتفاضات، حيث كان الفلاحون الفقراء والعاطلون عن العمل في المناطق الحضرية يطالبون بحقوق اقتصادية، فإن مصير هذه النضالات حدّدته قيادة الطبقة الوسطى الليبرالية للانتفاضات العلمانية والإسلامية على حد سواء. هذه القيادات التي طالبت بالحقوق السياسية والمدنية فقط، وتجاهلت المطالب الاقتصادية.
🔹 بعد صراع طويل وشاق، اندلعت تلك الانتفاضات في الجزائر والعراق والسودان ولبنان في السنوات اللاحقة، مدفوعة بالظروف الاقتصادية نفسها، لم يتعلم الليبراليون الذين نصبوا أنفسهم أوصياء شيئًا من إخفاقات العقد الماضي. وشكّلت التغييرات السياسية التجميلية، كما في السودان والجزائر، ذروة نجاحهما، دون تغيير في الواقع الاقتصادي المعاش على الأرض.
🔹 رغم الخسائر في الأرواح والدمار وقمع الانتفاضات العربية، لعب تعاون الليبراليين العلمانيين (الذين تحولوا إلى فاشيين) مع الديكتاتوريات والقوى الإمبريالية في عدد من البلدان العربية دوراً وحاسماً. ومع ذلك، فإن مجلة الإيكونوميست – الصوت الرئيسي للرأسمالية الغربية – تلوم الجميع باستثناء الليبراليين العلمانيين.
🔹 باختصار يتم إلقاء اللوم على الجميع باستثناء الليبراليين العلمانيين العرب الذين أثبتوا، رفقة الطغاة ورعاتهم الإمبرياليين، أنهم كانوا وما زالوا القوة الأكثر رجعية ومعاداة للديمقراطية في السياسة العربية في العقود الثلاثة الماضية.
🔹 ومع ذلك، فإن الدرس المستفاد من العقد الماضي هو أنّ الطريقة الوحيدة لتحقيق الديمقراطية السياسية والاقتصادية هي أن على الشعوب العربية، مثل جميع الشعوب في جميع أنحاء العالم، أن تستغنى في نشاطها وتنظيمها، عن الصفوة العلمانية المحلية التي تدعمها المنظمات غير الحكومية الغربية والليبراليون الذين يختطفون نضالاتهم وانتفاضاتهم. وعلى الشعوب ان تتجاوز النفاق الاستعماري لخطاب “حقوق الإنسان”.
🔹 أما الليبراليون الإسلاميون، خارج تونس، فلم يعودوا قوة سياسية كبرى بسبب القمع الهائل الذي تعرضوا له.
🔹 وبدلاً من ذلك المسار المتحقق، يجب على الشعوب العربية أن تتسلّح بقادة ولغة سياسية تصر دون اعتذار على إنهاء الديكتاتورية السياسية والاقتصادية. سيكون كفاحًا طويلًا وشاقًا، لكن يجب ألا يسمح لليبراليين، مهما كان لونهم، بتدميره، لأنّهم دمّروا المُحاولة الأخيرة.
بقلم: معتصم أقرع