علي كرتي: الطريق الى الجنة (٥)
– بنهاية العام ١٩٩٤ التقى القائم بالاعمال الاميركي بالشيخ علي عثمان محمد طه لاول مرة في لقاء مطول هدفه الامريكي كان البحث عن رأس خيط بديل في لفافة الحركة الاسلامية التي تمسك بمرجعية الانقاذ السياسية، فأكثر ما كان يزعج ويعجز القوى الخارجية الدولية والاقليمية التي انتبهت فجأة الى حالة نادرة في العالم الثالث … حالة بلد ينهض لوحده دون ان يكون معروفا له ظهير من معسكرات الصراع الدولي، او اثر يمكن اقتفاؤه الى صناديق التمويل الدولية او الاقليمية، فلم يكن هناك اثر لمال خارجي يمكن تقصي طبيعته وتفاصيل صفقاته وشروطها، ولم يكن للانقاذ حليف اقليمي له مصالح بحجم الاستثمارات الضخمة في مشاريع استراتيجية شرعت السلطة الجديدة في تنفيذها ولم يكن هناك تبرير منطقي لكيف يمكن لسلطة ورثت بلدا ضعيفا سياسيا وفقيرا ماليا ان تفكر في مشاريع اصلاح اقتصادي وسياسي بحجم لا تستطيعه اي من بلدان العالم الثالث.
– يقول دكتور علوم اجتماعية عراقي في احدى جامعات ادنبرة انه كان من اشد المعجبين بافكار الشيخ الترابي وجرأته في طرح قضايا اصلاح وتجديد فكري وسبق له لقاؤه مرة خلال الثمانينات من القرن الماضي وتأكد اعجابه به من خلال نقاش في جلسة جمعت اخرين، ولذلك يقول بانه كان يعلق امالا عريضة على افكاره وحركته الاسلامية حتى وقع انقلاب الانقاذ وبدأت تتضح علاقة الحركة الاسلامية به فيقول حزنت جدا ان الشخص الوحيد في العالم الاسلامي الذي كان قادرا على انتاج افكار ليبرالية حقيقية بديلة قد اضطر الى الاستعانة بالمؤسسة العسكرية فقط ليحتفظ بحقه في الاستمرار ويضمن عدم استخدام ذات الموسسة ضده وقفل الطريق عليه. يقول قلت في نفسي قد يبني الترابي مشروعا تنمويا ولكنه لن يستطيع بعد الان الحديث عن افكار اصلاحية في الفكر السياسي!! ولكنني تفاجأت بالسلطة الجديدة في السودان تتخذ طريقا غير مألوفا لا تسلكه السلطات المنتخبة في العالم الثالث، فالسلطة العسكرية الجديدة لم تكتفي بالارتياح الشعبي لانقلابها على سلطة حزبية متناحرة متشاكسة وضعيفة الارادة، بل شرعت تطلب من الشعب ان يشارك معها في قتال المتمردين في الجنوب ويدفع اليها ابناؤه وسط حملة من التحشيد ثم انطلقت في تطبيق سياسات غريبة على العالم الثالث، فلا توجد سلطة تفوز بالانتخابات او تستولي على مقاليد الامور ثم تشرع في تطبيق سياسات من شأنها اضعاف قبضتها عليها !! وذلك بالضبط ما شرعت في تطبيقه الانقاذ من خلال مراسيم الحكم الاتحادي اللامركزي وسياسات توسيع التعليم وسياسات تدريب الشعب على السلاح.
– لذلك كان الهدف من المبادرة الامريكية للحوار مع الاستاذ علي عثمان محمد طه هي البحث عمن يمكن اقناعه بان ما تحاول القيام به الانقاذ لا يشبه الحكومات وانها ليست بحاجة الى كل ذلك وان الحكومات تبحث في شأن مشروعيتها وقبولها في المجتمع الدولي لتضمن الحصول على وكالة دولية تؤهلها من ادارة شعبها لصالح الوكيل الدولي وليس العكس. وفيما يبدو فان الاستاذ علي عثمان كان يبحث في مبادرته للحوار مع الامريكان عن ضمانات قبول دولي لمحاولته تحويل الانقاذ من مشروع نهضة امة الى حكومة اخرى من حكومات العالم الثالث. والطريق الذي قاد فيه الانقاذ بعد ذلك شبيه بالطريق الذي يقود فيه السلطان رجب طيب اردوغان تركيا للوفاء بالمطلوبات التعجيزية والمعقدة جدا لتأهيل تركيا للانضمام للاتحاد الاوروبي والذي في سبيله يتجاهل السلطان ميراث تركيا السلطاني نفسه ويعزلها عن اي دور محوري واساسي في مناهضة او معالجة ما يجري في العراق وسوريا من استعمار مكمل لاجراءات الاستعمار التي فككت الخلافة العثمانية وتقاسمت املاكها ونفوذها. والاستعمار الجديد الذي يحاصر تركيا من الجنوب يستند بالاساس على اكمال تفكيك الوجود الاجتماعي للامة الاسلامية وتفتيت كياناتها الكبيرة المتبقية الى كيانات اصغر ثم جرها واحدة تلو الاخرى نحو مشروع مركزي بديل تقوده إسرائيل.
– لكن الغريب في الحوار الامريكي السوداني انه كان حوارا بلا مقابل ( انسوا مشروع النهضة وسوف نوقف الحصار والعقوبات عنكم ) والغريب انه خلال السنوات الطويلة منذ تلك الليلة التي التقى فيها الاستاذ علي عثمان بالقائم باعمال السفارة الامريكية بالخرطوم وحتى سقوط الانقاذ، لم يتوقف احد من مسؤولي الانقاذ ليسال نفسه عن عدالة ومنطقية معادلة الحوار هذه !! ولا ما الذي ستستفيده الانقاذ من بطاقة القبول الدولي الموعودة ؟! لم يتوقف احد في اي مرحلة ليراجع عوائد الخطوات التي كانت الانقاذ تتخذها كمطلوبات للحوار الامريكي او التواصل مع اطراف دولية اخرى : صالحت الانقاذ جميع الكيانات السياسية المعارضة لها في ذات الوقت الذي صادرت فيه حرية الحركة الاسلامية وممتلكاتها ومواردها وقطعت صلاتها ونفوذها الخارجي ، فهل اتسعت دائرة المشاركة السياسية الشعبية معها نتيجة اتساع المشاركة الحزبية في راسها؟! ام انه حدث العكس تماما فتمردت عليها دارفور الكيان الاجتماعي الاكبر بعد كيان جنوب السودان وامتد التمرد الخفي الى كردفان التي جمعت امرها على مشروع خاص بها ( نهضة كردفان) اضطر قائده في مرحلة ما الى الوقوف بحزم امام تساهل الخرطوم مع زعيم ميلشيا الجنجويد الذي كان يحاول التمدد داخل الكيان العربي في كردفان ؟! وانتظم شرق السودان الممتد من راسه الشرقي في بورتسودان الى قاعدته الجنوبية الشرقية في القضارف في حركة تململ من انشغال الخرطوم باعادة توطين يوسف حسين وفاطمة احمد ابراهيم وياسر عرمان وعبدالعزيز خالد وفاروق ابوعيسى في وظايف نظامها السياسي عن اكمال مشروع الحكم الاتحادي الحق الذي يعيد موارد قاعدة البلاد الاجتماعية الى اهلها ويكف ايادي نادي النخبة الخرطومية عن استغلال عوايد صادرات اللحوم والقطن والسمسم والدخن والصمغ العربي في بناء نوادي موظفي الموسسات الحكومية المركزية على شارع النيل واعادة بناء رئاسة الجيش القومي بمباني من زجاج ؟!
– كانت الانقاذ تحصل على قروض ومنح وتسهيلات مالية ضخمة جدا بلا عوائد وتحظى بدعم دولي غير محدود وتهفو اليها قلوب ملايين البشر الذين يتطلعون اليها لانها تمثل راس الرمح في مشروع عودة سلطة واحدة على الاقل الى مرجعيات العقل الاجتماعي القويم الذي يفكر بمنهج متسق مع المنطق. وكان المقابل المطلوب منها في غاية البساطة وفي متناول يدها وهو اثبات امكانية عودة السلطة الى اهلها الحقيقيين وتاسيس نموذج مختلف لادارة الشان العام تقوم عليه سلطة لا تحكم الشعب وانما تتقدم صفوفه وتنوب عنه في تعبيد طريقه وتحويل مساهماته واشتراكاته الى موسسات تمكن ادناه من المساهمة في مشروع نهضة اساسها حرية المساهمة وليس العمران المادي فالعمران المادي نتيجة حتمية لاتساع مواعين المساهمة العامة وليس العكس. فبناء بنايات من زجاج للجيش السوداني لن يجعله جيشا ( مهنيا ) قويا ، لكن فتح باب المساهمة للمدنيين اصحاب الكفاءات لتاسيس صناعات عسكرية سيجعله جيشا محترما ولكن المنطق يقول بان مساهمة المدنيين في تاسيس الصناعات العسكرية ينبغي ان يتلازم مع مشروع يوحد المدنيين والعسكريين ويساوي بينهم في فرص نيل شرف القتال.
– ذهبت الانقاذ الى الحوار الامريكي السوداني وهي مسكونة بالرغبة في الهروب من تكاليف النهضة الاسلامية ومفتونة باغراءات الانضمام الى نادي الحكومات التي تدير شعوبها بالوكالة عن كفيل دولي يكفيها مؤونة التعب في تحقيق العيش الكريم لشعبها لانه يضمن لها المشروعية المتغلبة بالقوة المادية المحتكرة لها دون شعبها.
– لكن المعضلة التي واجهت الانقاذ في مسعاها للحوار مع الادارة الامريكية كانت معضلة مركبة في جوانب عديدة سيكون ذلك مجال ونطاق حديثنا القادم باذن واحد احد.
– نواصل
صديق محمد عثمان