يبدو أن الزيارات الخارجية التي قام بها مؤخرا، الفريق عبد الفتاح البرهان قائد الجيش السوداني، لعدد من الدول، التي استهدف من خلالها الحصول على تأييد قادتها ودعمهم لخطته الرامية إلى الانفراد بالسلطة قد آتت اُكُلهَا سريعا، وهو ما بدا واضحا في تكثيف الجيش السوداني لعملياته العسكرية ضد نقاط تمركز قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”، في كل من أم درمان والعاصمة السودانية الخرطوم خلال الأيام القليلة الماضية، والذي تزامن مع دعوة البرهان المجتمع الدولي من على منبر الأمم المتحدة لتصنيف الدعم السريع تنظيما إرهابيا. مبررا هذا الطلب بارتكاب الدعم السريع جرائم ضد الإنسانية، واستهداف المدنيين خلال عمليات القصف التي يقوم بها.
الدعم والتأييد الذي حصل عليه البرهان من مصر، وقطر، وجنوب السودان، وإريتريا، لم يؤخذ بقلق أو حساسية بالغة من جانب أي طرف، كونه جاء من دول عربية وأفريقية تربطها بالسودان علاقات أخوية، وتاريخية، وحدود جغرافية.
إلا أن ما أثار القلق على كافة المستويات العربية، والأفريقية، والدولية، كان استجابة تركيا السريعة لجميع مطالب البرهان، سواء المرتبط منها بالتدخل كوسيط محايد بين الطرفين، أو بتأييد رغبته في تشكيل حكومة تصريف أعمال في بورتسودان مقر إقامته الجديد، وانتهاء بتزويد الجيش السوداني بطائرات مسيرة تمكنه من فرض سيطرته، وإحراز تقدم قد يُفضي إلى إنهاء المعارك الدائرة منذ قرابة الـ6 أشهر.
الموقف التركي الذي بدا داعما بصورة مطلقة لقائد الجيش السوداني في صراعه مع قوات الدعم السريع أعاد إلى الأذهان تدخل أنقرة في الملف الليبي، وتأثير ما قدمته من دعم عسكري ولوجيستي لصالح حكومة الوفاق الوطني ضد قوات خليفة حفتر، الأمر الذي أعاق تقدمه، وحال دون انفراده بالسلطة هناك، وعمل على إعادة التوازن على الأرض بين الطرفين، وهو ما أدى إلى توتر في علاقاتها مع أطراف عربية ودولية متعددة.
وفي سياق ذلك أعلنت تركيا رسميا عدم وجود نوايا لديها للتدخل عسكريا في هذه الأزمة، وأنها تنأى بنفسها عن السقوط في المستنقع السوداني، مؤكدة سعيها لإنهاء الحرب الدائرة التي تضُر بمصالح الشعب السوداني عبر الطرق الدبلوماسية والسياسية، وتوظف نفوذها لدى الأطراف الإقليمية والدولية لتحقيق هذا الهدف، آخذة في الحسبان عدة إعتبارات منها:
أن دعمها لقائد الجيش السوداني يأتي باعتباره الممثل الشرعي للحكومة السودانية، والمتحدث الرسمي باسمها، ويجب أن يتم التعاطي معه وفق هذه الرؤية، خصوصا وأن القوى الإقليمية والدولية تتعامل مع ما يحدث في السودان على أنه صراع بين طرفين، الجيش السوداني الذي يمثل الحكومة السودانية، وقوات الدعم السريع، دون الخوض في تحديد الطرف الذي يمتلك الشرعية في البلاد، وهو الأمر الذي يربك حسابات البرهان ويمنعه من المضي قدما في طريق إعادة الأمن والاستقرار للبلاد بوصفه ممثلا للشرعية بها والمخول بحمايتها.
أن مساندتها العسكرية للجيش السوداني، ودعمه بالمسيرات التي تنتجها مصانعها، ستمكنه من التفوق، وتحقيق نصر سريع لمنع تفاقم الأمور، وتحولها إلى حرب أهلية تقضي على الأخضر واليابس، وتدفع المزيد من السودانيين إلى الخروج من دولتهم بحثا عن مأوى آمن.
أن تأمين حزمة أكبر من المساعدات الإنسانية للشعب السوداني الذي أصبح في أمس الحاجة إليها مع تزايد أعداد النازحين عن مدنهم وقراهم نتيجة القصف المستمر الذي يستهدفهم ويهدد أرواحهم، ستُقدم من خلال الجيش السوداني بصفته ممثل الشرعية في البلاد.
أن العمل كوسيط حيادي يتمتع بعلاقات جيدة مع طرفي النزاع، يستلزم الحصول على ثقة الطرف الشرعي في البلاد حتى يمْكنَ القيام بدور فاعل، يتيح الفرصة مجددا أمام العودة إلى طاولة المفاوضات بهدف التوصل لاتفاق ينهي الصراع، ويضع حدا للتناحر العسكري الحالي.
إلا أن هذا الإعلان لم يبدد المخاوف عموما من إمكانية تكرارها للسيناريو الليبي في السودان في أي مرحلة من المراحل، خصوصا إذا فشلت محاولات التوسط بين الطرفين، وظل الأمر بينهما يراوح مكانه، بل هناك من رأى في التحرك التركي مقدمة تؤكد وجود نوايا خفية لدى أنقرة للتدخل عسكريا في السودان.
صحيح أن لتركيا مصالح إستراتيجية في السودان لن تقبل التضحية بها بأي حال من الأحوال، سواء تلك المرتبطة بالسودان نفسه، أو بتواجدها في القارة الأفريقية، الذي تسعى لتوسيعه جغرافيا، وزيادة حجمه سياسيا واقتصاديا، فهي ومنذ البداية كان لها هدف أساسي من تطويرعلاقاتها مع السودان، وهو أن تكون هي بوابة السودان تجاه أوروبا، على أن تكون السودان بوابتها الرئيسة في أفريقيا.
أما بالنسبة لمكاسبها من السودان نفسه، فإن التوافق مع البرهان يعيد إليها القدرة على ترسيخ أقدامها مرة أخرى هناك، والمضي قدما في تنفيذ الاتفاقات التي سبق وأن تم التوصل إليها، خصوصا تلك المرتبطة بجزيرة سواكن التاريخية، حيث لدى تركيا رغبة في ترميم الآثار العثمانية الموجودة بها، وتأهيلها لإعادتها مجددا كميناء ملاحي تاريخي عسكري وتجاري، وتحويلها إلى منطقة سياحية حيوية تجذب إليها الزائرين.
إلى جانب ترجيح احتمالية عودة طرح فكرة إقامة قاعدة عسكرية تركية في سواكن لتعزيز الوجود التركي على البحر الأحمر في ظل اهتمام أنقرة بتطوير قدرات أسطولها البحري وصناعاتها الدفاعية البحرية، خاصة وأن هناك اتفاقا على تنشيط عمل اللجنة العليا للتعاون الثنائي، واللجان الوزارية المنبثقة عنها، لإعداد جدول زمني لتفعيل اتفاقيات ومذكرات التفاهم التي سبق توقيعها بين البلدين منتصف عام 2018، خلال فترة حكم عمر البشير، والتي توقف العمل بها نتيجة للتطورات التي شهدها السودان، وهي الاتفاقيات التي تشمل التعاون في مجالات الطاقة، والأمن، والتدريب العسكري، والتصنيع الحربي.
تأثير التدخل في السودان على علاقات أنقرة بالقاهرة
أما على الصعيد الاقتصادي الذي توليه تركيا اهتماما بالغا نظرا للأزمة الطاحنة التي تعانيها، فإن أنقرة تضع نصب أعيُنِها رفع حجم التبادل التجاري مع السودان، وزيادة حجم التعاون في مجال تطوير قطاع الزراعة، خصوصا وأنه سبق للحكومة السودانية الموافقة على تخصيص 100 مليار هكتار من أراضيها الزراعية لاستثمارها من جانب شركات تركية.
إلا أنها في الوقت ذاته تدرك جيدا أن دخولها على خط الأزمة السودانية عسكريا من شأنه أن يؤدي إلى عودة التوتر في علاقاتها الدبلوماسية مع عدد من الأطراف الدولية والإقليمية، وفي مقدمتها القاهرة، مما يعيد علاقتهما إلى المربع الأول، وهو الأمر الذي لا تريده أنقرة، ولن تسعى إليه في هذه المرحلة على الأقل، خاصة وأن تحسين علاقاتها مع القاهرة يصب في صالح تقوية موقفها في أزمة شرق المتوسط، ويعيد إليها حصتها من ثروات المنطقة، التي فقدتها نتيجة تعنت كل من اليونان وقبرص بدعم من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، إلى جانب عدم رغبتها في خسارة المكاسب الاقتصادية التي يمكن أن تجنيها من وراء تحسين هذه العلاقات.
صالحة علام – الجزيرة نت