سيف الدين حسن سلطنة الصورة التلفزيونية.. الإبداع مضاد للأوهام

هذا المقال ، أمسكت فكرته زمنا طويلا في داخل نفسي ، خطوط معالمه الإولى قبعت ردحا من الزمن في مدوناتي المختصرة ، قررت مرات ، ومرات ، أن أخرجه مكتوبا مكتملا للناس ، ثم سرعان ما أدخل سنة القلم إلى ” غمده ” وأعيده إلى موضع سكونه الأول ، دون أن أكتب حرفا واحدا .
لحظات مرهقة ذهنيا ونفسيا تلك التي قررت الكتابة عن منجزه الإبداعي !
ولكن هل من جمالي مبدع مفن ، يستحق الكتابة عن أعماله تحليلا وتشريحا غيره ؟ ونحن في هذا المنعطف الفكري من تاريخ بلادنا .
هكذا سألت نفسي هذه المرة وبدأت مضطربا عند صياغة شارتي الكبرى في صدر المقال :
” سيف الدين حسن سلطنة الصورة التلفزيونية
الإبداع مضاد للأوهام ”
أخيرا تلك شارتي ، والفرضية نفسها وضعت بها حدا لتردد طويل الأمد مع كل ظن ، حاول إعاقة سبيلي .
وما أن أكملت صياغة العنوان أعلاه ، إنتابتني تلك الرعشة التي أعرفها !
رعشة الخوف التي تصدم الكاتب الناقد ، حين يشرع في سكب مداد القلم ، مظنة اللوم والعتاب !
فقلت ما أتعسني ، وزجرت روحي : ومتى كانت السعادة صنوا لكاتب مذ عرف الناس الكتابة الناقدة ؟ .
الكتابة والتعاسة صنوان ، الإضطرابات هي التي تغذي الكتابة .
وأقدارنا أن لا نمشي إلا وسط الأعاصير والعواطف ، فالهدوء مميت في أغلب الأحيان .
منطق الكتابة ، هو الإحساس بالضجر ، والإنفعالات ، وعنف الخيالات المزلزل للكائن والمعتاد .
ثم أليس ” خير النقد ما يجئ من محبه ” .. واتخذت قراري ، أن لا أكف عن المسير ، ومضيت في إسالة حبر القلم ، إجريه على الورق . مدفوعا بولهي الخاص أولا ، بالنظر إلى الواقع دائما ، وشخصياته ، بطولاتهم ، ملاحمهم ، كاتب متيم بالتاريخ ووالوقائع والخيال معا ، لا كما يفعل كتاب الفنتازيا الواقعية ، ولكن إن شئت فقل ” الخيال الواقعي ” لا السحري المتعمق في اللا واقعي ، وتلك طريقتنا الخاصة ومنهجنا فب الكتابة . ونناضل أيما نضال بحثا عن صاحب منجز فني يناسب تطبيقات طريقتنا .
وهل غير ” سيف الدين حسن ” تتناسب أعماله وما نرمي إليه من فرضية وأسلوب .فهو المخرج العالي في حساسيته الفنية المتخصص في إبداع الأفلام الوثائقية والبرامج التسجيلية .
ففي أعماله التلفزيونية الوثائقية ، أشد العوالم تشويقا وإثارة وغنى بالدرامية ، يجول بك في الجغرافية الثقافية ، مدائنا ، ومجتمعات ، أشخاص ومواهب وطبائع متباينة ، وألوان أمزجة متقاطعة .
يعمل بجسارة الوعي والإدراك ، مشرعا أكبر عدد ممكن من النوافذ الحرة على كل جهات السودان وتضاريسه .
شيئين أساسيين – لا ثالثة لهما – يلتمعان وبإصرار شديد باذخ في أعمال سيف الدين حسن ، هما أصل الإبداع الفني – حسب علماء نفس الإبداع – وجوهره ، يحفزان المبدع على العمل الإبداعي :
الأول : هو القيمة الجمالية ، وهو ما يذهب باتجاه الشكل الفني للمنجز الإبداعي .
الثاني : القيمة الموضوعية ، وهو ما يذهب باتجاه الموضوع أو المحتوى .
القيمتين هما قضية أصل الإبداع الفني، أخذتا وقتا طويلا في مناقشات ومجادلات الفلاسفة والنقاد تحت مسألة : ” الشكل والمضمون ” .. إذ لا ينبغي للقيمة الجمالية أن تكون على حساب الموضوعية والمحتوى ، ولا أن تكون الموضوعية والمحتوى على حساب الجمالية الفنية .
إذ ، لا ، ينقص قيمة الجمال أن يخدم قضايا الناس ، ويطرح أحلامهم الممكنة ، أن يعمل على تحسين الأوطان والعيش فيها . فإن الفائدة الوطنية لا تنتزع شيئا من الفن المبدع .
وتلك هي القاعدة الأساس ، التي إتكأ عليها سيف الدين حسن وباقتدار مائز ، بحثا عن قيمة الجمال الممتع والموضوعية في إنجازه ، رغم جنس النمط الوثائقي وطبيعته الجافة ، التي لا تعمل إلا على تسجيل الوقائع الكائنة – حضورا و غيابا – مثله ومثل كاتب التاريخ ، إلا أنه وبقوة موهبته تمكن من أن ينتقل بالنمط إلى مساحات جديدة ، إحساس من الرهبة الممزوجة بالتبجيل والمحبة .
هو مستوى جديد من الفكر الجمالي والمعرفي والأخلاقي أيضا ، يشبع حاجتنا إلى الإيمان بالسودان تراثا وثقافة .
إلحاحية ” سيف الدين حسن ” ورغبته الطامحة دائما للعطاء والبذل والتضحية ، وشعوره المأساوي بمشكلات السودان في مسألة السياسات الثقافية وإقتصادياتها ، التي أدت إلى فقدان التوازن في كل مناحي حيوات الناس ، كل تلك الأسباب تضافرت وولد الطاقة العظيمة لأن يضع مشروعه الفني الذي بدأ التخطيط له منذ منتصف سنوات التسعينيات ، وأذكر ، ونحن نتجول معا في جنوب السودان ، أيام البرنامج التلفزيوني” في ساحات الفداء ” ونحن فريقه الفني المنتج له ، وأثناء مسيرنا في أدغال غابات الإستوائية ، كيف يتفرد سيف الدين حسن دون أفراد الفريق الفني ، في استغلال الصور التي يراها ، يلمسها بعمق ، تلك الصور الرائعة عن حياة الناس في تلك الجغرافية الثقافية الأخرى من السودان ، كان يختزنها في داخل أعماق روحه كما الصوفي في تأملاته لخلق الله ونعمته على الناس في الدنيا .
ذلك هو المحرك اللجوج الذي دفع ” سيف الدين حسن ” إلى إفتراع مشروع ، إبداعي فني متخصص في إنتاج الوثائقيات التلفزيونية ، ومضى قدما في الرحلة ، لا بسبب الرغبة وحدها ، فذلك لا يكفي ، ولكن شعوره الملح بأن يعطي موهبته للسودان ، فالموهبة أمانة ، هي أداتنا في نعيش له صامدين أمام تحدياته .
وأن ندخل التجربة الصعبة ، كجيل ، هي رسالتنا في خوض هذا اليم ، لابد أن نصل إلى الشاطئ . تلك مهمتنا ومسؤولية جيلنا . من أبناء هذه المهنة الشاقة .
فجاهد وجالد بصلابة في مسيرته ، أجاد ، وبرع ، ولعل سر ذلك النجاح لا بسبب كل ما ذكرته سابقا فحسب ، ولكن من خصائص – سيف الدين حسن – المميزة ، في طاقة الإخلاص المهني المتجذرة بغرائبية في كل كيانه الإنساني ، ملتزم بقواعد الطريق وأخلاقيته ، تقيده ، تهزه وتوقظه في أي لحظة ، متى ما جاء الإلهام ، يقبض عليه بلا تردد .
تجده يعجن الخام الفكرة التي تدغده ، يتقراها ، ثم يسكب فيها خصوبة خياله ، بصدق روحي مهيب ، يحنو على الصورة المتخيلة حنو الوالد لطفله ، معاينا ومدققا في أبعاد الألوان والظلال ، في كل صورة ، رحلة ، ومغامرة ، وبنى أحداث تتصاعد من بين الواقع والخيال ، بين الخرافة والتاريخ ، متماهية في عمليات التنقيب والكشف عن ملامح أوجه الناس ، وفك شفرات فلسفة طقوسهم وممارساتهم الإجتماعية على صعيد المعنى وجمال الأداء في آن .
فعلها هكذا في فيلم ” الشلك ” – بحر سنوات التسعينيات – كأول خطوة في تنفيذ مشروعه ، حيث قام بتسجيل حاذق لصور حياة قبيلة الشلك في ” فشودة ” موطنهم ومركزهم الروحي والإداري – بأعالي النيل جنوب السودان .
أدهش المنجز – الشلك – صورة ، ودراسة للحياة وتحليلها . ونال جائزة أفضل أخراج في مسابقات مهرجان الإذاعات والتلفزيونات العربية بجمهورية تونس في ذلك الأوان .
الصورة التلفزيونية عند المخرج سيف الدين حسن فيض زاخر من الأفكار والأطروحات المبتكرة المتجددة ، مشهديات تطرب الرائين ، بشاعريتها ولطافتها التي تتسم بالقدرة الباهرة في تكوين مؤثرات بصرية غرائبية موحية ، كأنها نسيج شعري شجي مرهف ، مكتسية بوهج الفن الصادق الآخاذ .
ومن ثم يمشي – سيف الدين حسن – لا ليقول الشيء الذي قاله نفسه ، ولكن خطوات أخرى للبحث والكشف والتحليل المستبصر ، في كل خطوة جديدة يمشيها ، يجد عوالم من تعبيرات الشخصية السودانية ، وآفاق فلسفته وأدوات تفسيره للأشياء والأحداث من حوله ، فمن أعالي النيل حيث قبيلة ” الشلك ” .. هذه المرة ، يتوغل جنوبا ، في غابات الإستوائية ، متتبعا نهر ” بحر الجبل ” من مدينة ” جوبا ” مركز قبيلة ” الباريا ” .. متتبعا مجرى النهر شمال ” جوبا ” .. حتى يصل ” تركاكا ” موطن موطن قبيلة ” المونداري ” ويمكث أياما في لجج مياه النهر الجبل ، منتجا إبداعيته ” صائد التماسيح ” الذي أستطاد به الجمهور لتسجيله المتميز لغرائبية الوقائع في المكان والزمان ، واصطاد به كذلك جائزة أفضل أخراج في دورة أخرى من دورات مهرجان الإذاعات والتلفزيونات العربية بجمهورية تونس .
من جنوب السودان يتوجه باتجاه الشمال الأقصى ” دنقلا ” وما حولها من قرى خط نهر النيل مخرجا للجمهور فيلم ” أرض الحضارات ” ويحوز بها جائزة الثالثة كأفضل إخراج في مهرجان القاهرة .
تمضي الأعوام ، وهو في إشتغالاته مبدعا ، أثرى فضائيات السودان ، ودخل بها جميعا إلى دائرة الدولية في مسابقات الأفلام الوثائقية على المستوى العربي والإفريقي ” تونس ، القاهرة ، الجزيرة للأفلام الوثائقية ، مهرجان أورتنا في دولة كينيا ومهرجان الخليج العربي ” .. حاز ” سيف الدين حسن ” على ” ثمانية عشرة ” جائزة ، منها ” أربعة ” أفضل إخراج ” .. وجملتها تأتي على هذا النحو :
” الشلك ، أرض الحضارات ، صائد التماسيح ، مراكب الشمس ، درب الاربعين ، النوبة سبر النتل ، سليل الفراديس ، الطريق الي سنجنيب ، دارفور لعنة الرصاص ، البجا من البحر الي النهر ، سحر النيل وأخيرا فلم ” إلى جبل مرة ” .
بذلك الجهد المستمر ، الكاشف للسودان وثقافاته إتخذ موضوعية إنتاجه الفني ، ليصبح نموذجا أعلى في امتلاك أدوات الفن الباهر بنبل المسؤولية الوطنية . وقدرته في الإشتغال على تصوير المعادل الموضوعي للواقع ومشهديات السودان وظروفه وانتاج المعنى العميق له بعثا للإيمان به والإنتماء إلى ثقافته .
إذ ، كان ولا يزال سيف الدين حسن ، يعمل وبتطور مستمر على إنتاج تتمظهر فيه مطلوبات واقع السودان بقزح ألوان ثقافاته وفسيفساء مكونات لوحته المائزة في الوجود الإنساني ، وأسئلته الكبرى ، وأقداره وتحولاته ، إنعطافا واستقامة .
وثمة مسألة جديرة بالإشارة ، أنه لا يمكن ، إلا القول ، وفقا لتقديري الخاص ، أن ، سيف الدين حسن ، في أعماله ، لم يكن لسان حال نفسه فقط ، فقد بذل جهدا كبيرا لتجنب الإنزالاق في وحل الآحادية ، كان في كل أعماله ، ومحمولات عناوين قطعه الفنية ، بسيميائياتها اللامعة ، ليس مثال للعقل المفتوح فحسب ، بل ملتقى للأفكار المبدعة الصادقة ، كيفما كان ، وأينما كان ، يؤكد عمليا على التعدد والإختلاف الذي لا يفسد للود قضية ، ويؤكد على التباين والتنوع .
بذلك المنطق ، إتخذ من أقوى كتاب السيناريو التلفزيوني وأميزهم نصاعة في كتابة المخططات الأدبية الرصينة ، في مجال البرامج التلفزيونية التسجيلية الوثائقية ، ملهمين ، مؤسسين بجزالة مفرداتهم وحسن تعبيراتهم ، وجليل أفكارهم ، أنساق البنى الكلية ، المؤسسة لتلك الأفلام .
ويمكن القول ، إن الإختيار نفسه ، لم يكن إختيارا إعتباطيا ، وإنما هو إنتخاب قصدي ، ذكي ، دال على وعي المخرج وإدراكه لمعنى ما يريد أن يقوله للناس فألزم نفسه بمن هو أقدر على تحقيق تصوراته المتخيلة في ذهنه وهم :
” عبدالحفيظ مريود ، النور الكارس ، يوسف ابراهيم و السموأل الشفيع ” .. كتاب مبدعون ، نشهد لهم قدراتهم الفائقة وإمكانياتهم على توظيف مواهبهم في الكتابة وثقافتهم ، وولعهم المشترك بالتاريخ ، الجماعي والفردي على السواء ، في منجزاتهم المتعددة الأصوات ، والأفكار والإنفعالات .
فلكل واحد منهم صوته الخاص ، وبريق مفردته ومعاني كلاماته التي تفيض حيوية واتزان مهيب .
فالكاتب المبدع هو من يتخذ الأفكار جسرا للعبور إلى الحقائق الشعورية والإنسانية والإجتماعية والسياسية .
وهي قراءة لشعور الآخر ، حتى يشعر أن هذا الصوت صوته . وأن هذا النص هو صوغ لحياته بالكلمات ، وكشف لذاته كإنسان أولا ، ذاته بكل غموضه والتباسه ، إيجابياته ونقائصه وتناقضاته وتعقيداته ومحاسنه .
وهذا ما يحققه ” عبدالحفيظ مريود ” مثلا في كتاباته ، وهو في تقديري حالة خاصة لوحده ، نعمة تعبير نادرة ، لن تجد من يجاري صوت ولون وظلال تعبيراته في أدبيات البرامج التلفزيونية الوثائقية ، وغيرها من الأنماط الكتابية ، عنده يكمن عنف جمال المفردة وصفائها ، ويمضيان معا في تضافر حاذق حصيف وصفا للناس ووضعياتهم الكائنة والممكنة ، وحفر عميق في التاريخ مستودعات المأثور الشعبي الزاخر بأفكار ورؤى السابقين في حضوره الآن .
أما ” النور الكارس ” ، عرفناه منذ السلسلة التلفزيونية الوثائقية الماتعة ” سائحون ” ، كاتب مضاد لتسليع الكلمة ومجانيتها وابتذالها . فلا يتوسل إلا الكلمة العصية على اللوم ، الكلمة الساطعة النقية التي لا عيب فيها .
والأقرب إليه في ذات الإتجاه الكاتب ” يوسف إبراهيم ” .. غير أنه أكثر ميلا إلى شاعرية النص بهدوء عوالمه وتأملات الفكر ، بأدب الخلق الصافي .
أما السموأل الشفيع ، كاتب لطيف الكلمة ، عالي في تهذيب المعاني ، التي تدفع المتلقي إلى إستثمار منطق الأشياء ، والخيالات معا .
بيد أن كتابنا هؤلاء الأربعة ” عبدالحفيظ مريود ، النور الكارس ، يوسف إبراهيم والسموأل الشفيع ”
برغم إختلاف طرائق وأسلوبية كتاباتهم ، إلا أنهم جميعهم توحدهم معنى كلمة ” الإبداع الكتابي ”
الذي من جوهر وظيفته هو أن يحقق اللذة للجمهور المتلقي ، من خلال رهق تعب تفسيره لما يسمع أو يقرأ من الكلمات .. متوافقا مع ما ذهب إليه ” أمبرتو إيكو ” الروائي الإيطالي ، أستاذ علم الرموز والعلامات واصفا طريقته الخاصة في الكتابة قائلا :
القارئ في حاجة إلى ما ينهكه . أعتقد أن رواياتي ، روايات ” صعبة ” إلا أن الناس يقبلون عليها بكثرة ، وهي نخبوية إلا أنها تثير رد فعلا جماهيريا .
فلماذا يا ترى ؟
لقد مل الناس الأشياء السهلة . إنهم في حاجة إلى تجربة متعبة ، معقدة تنطوي على تحديات كفيلة أن تشعرهم بالرضا عن أنفسهم وقدراتهم الفكرية .
أن ثمة في الحياة رويات سهله . فأنا مثلا لا يمكنني النوم إن لم أقرأ قصة بوليسية في المساء . ولكن حتى الإنسان الذي تعود السير في الدروب الواسعة والمنبسطة ، يشعر أحيانا بالرغبة في تسلق الجبال .
التسلق متعب طبعا ، لكنه يجذب لأنه متعب . تلك هي اللذة التي تمنحها إيها الأعمال الجيدة .
وعلى هذا الأساس ظل ” أمبرتو إيكو ” يعمل في إبداعه الروائي على إيجاد فسحة لحرية تفسير القارئ ، حتى يشارك في خلق المكتوب ويساهم في ضخ كلماته وصوره ، وإن هي ليست حرية مطلقة بسبب خضوعها لمنطق النص نفسه .
وذلك المعنى نفسه نجده عند كل الكتاب الذين إنتخبهم المخرج ” سيف الدين حسن ” واختارهم للعمل المشترك ، قصدا ، لا إعتباطا ، للإغتذاء برؤى بعضهم وضخ الحيوية المستمرة في أوردة وشرايين العمل .
المخرج المبدع ، من أهم خصائصه وميزاته هو معرفته أولا بالكاتب المبدع ، بوصفه صاحب القدرة الكبرى ، للوصول إلى الجمهور المتلقي ، متخطيا كل الحواجز ، وتلك هي خطورة الكاتب ، إرتباطه المشع المتوتر بينه وبين الناس .
تلك التكاملية الفنية بين أهم عنصرين من مجموع العناصر الكلية في عمليات الإنتاج التلفزيوني – وأعني المخرج والكاتب – إنما يحسب ضمن الميزات الباهرة التي يلعب عليها المخرج في تكوين المشهديات ذات الجمال الآخاذ التى تملأ فضاء الشاشة التلفزيونية .
وتلك من خصائص صدق المبدع مع نفسه ، ومع مجموع المبدعين الآخرين الذين يتضافرون جميعا لإنتاج الصور وولأقوال والأفكار ، للوصل إلى الجمهور بأقصى حدود الصدق .
ووصلا إلى أقصى حدود تلك التكاملية في الإنتاج بتضافر أنساق مجموع العناصر المبدعة .. إستعان ” سيف الدين حسن ” بمن أسميهم شعراء إبداع المؤثرات البصرية في السودان وهما :
الأول : هو ” فتح العليم دفع الله ” رجل حباه الله موهبة كبرى ، وبدهية ذكاء في عمليات الإنتاج الإبداعي التلفزيوني ، وأعني تحديدا عملية تكوين الصورة بكل أبعادها المشهدية ، فهو مصور يمنح الصورة المسطحة ، يشحنها بلاغة مشاعره الخاصة بتقاسيم جلال روحه المحبة للجمال أصلا ، حتى تتكثف في الصورة ، الألوان ، والإيقاع النغمي الرحب بدأب شاعري تحملها كلمات لغة من نوع خاص .
الثاني : هو ” شرف الدين محمد الحسن ” مصمم وشاعر مؤثرات بصرية صوتية ، له قدرة هائلة في ترجمة أفكار وخيالات أي مخرج مهما تطلسمت رؤاه ، يفككها بالكامل ، يعيد تركيبها بكل تفاصيلها ، وعواطفها . يرفعها إلى مستوى مدهش من الشاعرية ، من تصميماته المبدعة بكل زوايا النظر ، ترى وتسمع وتتنفس شاعرية مغناة .
” فتح العليم دفع الله ” و” شرف الدين محمد حسن ” هما عوالم خاصة في مجال الإشتغال الإبداعي التلفزيوني على المستويين ” التنظير والتطبيق ” .. لم يدرك ذلك إلا المخرج ” سيف الدين حسن ” بنباههته وذكاءاته المتعددة ” سر جوهر الإبداع ” المتجذر بعمق فيهما ، فاصطحبهما مشرفان على تفاصيل العمليات الفنية تكاملا معه في الإنجاز .
وليس ذلك فحسب ، فقد بلغ مجموع المبدعين في الإنتاج المتضافر من مختلف عناصر الإنتاج ما يقارب عدد مئة شباب فنان من في مجال ” التصوير ، المونتاج ، تصميم المناظر والإضاءة إلى .. الخ ”
وصلت تلك التكاملية الفنية بينهم إلى أقصى حدوده المبدعة حتى بلغا المرحلة التالية من مراحل أطوار ” سيف الدين حسن ” في مشروعه الإبداعي الذي ينتمي إنتماءا صاعقا لبلاده وأكثر تلاؤما مع تنفسه وإيقاعه .
وينقلنا إلى سلسلة أخرى بسيمياء بهيج متلألأ الظهور : ” أرض السمر ” أسم وشارة مفصحة الدلالة والمعنى بوصفها ميسم من مياسم وجهنا السوداني – باتجاه لون البشرة – أو هكذا تجيء إشارة المخرج في علامته !!
وقد نجد فعلا ، زوايا نظر أخرى في دلالات الأسم وإشاراته ، وذلك أمر طبيعي باعتبار ، أن الفنان في فنه أصلا ، لا يفعل غير أن يشير إلى وجهة نظر ، فلا يخضع الفنان إلى قوانين العلم التطبيقي – ولا ينبغي له ذلك – كما هو في لائحة معادلات علوم الرياضيات والكيمياء أو الفيزياء .
ولأهل السودان لهم فنون في ذلك ، ونظر خاص مميز وطريف ، في إطلاق الأسماء وما توحيه لهم أمزجتهم ، ومنها تسميتهم للون البشرة السوداء ” أزرق ” وجعلوا منها شارة للسلطنة الإسلامية الأولى في السودان – السلطنة الزرقاء – والتي هي أصلا نتاج تحالف الفونج الأصل السوداني الأفريقي الوطني بقيادة ” عماره دنقس ” مع الوافدين من العرب القواسمة ” العبدلاب ” .. ”
سألني أحدهم ولماذا الزرقاء ، قلت : أظنه المزاج السوداني القديم ولا غضاضة ، والله أعلم .
أورد أبن منظور عن معنى اللون الأسمر : ” أَسْمَر ” هو اسم علم مذكر ، من أصل عربي ، وجاء الاسم على صيغة أفعل ، ومعناه ما كان لونه بين السواد والبياض ، والأسمر كذالك هو الرمح ” .
وما الفرق بين قولنا ” أسمر ” و ” أسود ” ؟ ”
في لسان العرب ، الأسمر هو اللون الحنطي الغامق ويستخدم في زمننا أيضا لوصف من هو أغمق درجة في السواد ” .
يفهم من ذلك أن ” السمرة ” درجة من درجات اللون الأسود ، وهو في موقع الوسط عند مستويات التدرج .
وإطلاق المسميات على هذا التدرج ، في اللون الأسود للبشرة ، أبدعنا نحن في السودان ، فقلنا ما هو ” القمحي ، والخمري ، والأسمر ، والأخدر وإمعانا في تأكيد شددة الخدرة نقول ” الخدرة الدقاقة ” وهي الأخضر ، ومن أسماء درجات الأسود ” الأزرق ” وهو الشديد السواد .
و ” السمرة ” تقع في موضع الوسط بين الدرج وكل تلك الدرجات اللون وسم بها أغلب أهل السودان ملامحهم وجعلوا من السمرة شارة في الوصف ..
وكأني بهم ذهبوا إلى أن هذان البيتان لأبي تمام لا يعنيهم في شيء :
” سود الوجوه كأنما نسجت لهم
أيدي السموم مدارعا من قار
لا يبرحون ومن رآهم خالهم
أبدا على سفر من الأسفار ”
ولأن ” سيف الدين حسن ” ومعرفتي العميقة به ، هو مبدع ط يملك حساسية مهيبة على إلتقاط أكثر الشارات المضيئة في الوجدان الجماعي السوداني المشترك ولو في حدوده الدنيا .
قطعا ، إن إختيار أسم ” أرض السمر ” هي لحظة لامعة جاذبة لها قدرة على الإمساك بموضع إلتقاء السودانيين ، خطفها – سيف الدين – وظفر بها حتى لا تجفل منه هذه اللحظة المفصحة الوسامة وجمال المعنى وعمقه .
” أرض السمر ” في تقديري ، أسم مفرح وقعه على اغلب الجمهور السوداني ، وهكذا كان إحساسي عندما قرأت الأسم لأول مرة ، لا أدري بالتحديد لماذا ؟
ولكن شعرت بأن هذا الأسم يعيد إلينا كثير من حقيقتنا المنهوبة ، ويكسر ” جرة تابو ” أوهامنا وتصورتنا الخاطئة للسودان ، التي افقدتنا كثير من قيم إنسانيتنا في التضامن والإحترام .
” أرض السمر ” عمل إبداعي شاهق وصادق أمين في رصد أشياءنا غير المرئية ، كاشفا عن أسئلتنا الداخلية ، الخبيئة في زوايا منظوراتنا الضيقة .
جعلنا نرى السودان على نحو مختلف ، ومنحنا إحساسا هائلا بجمال فضاءاته المتعددة ، وتعدد إيقاعات أنغامه ، أسمعنا حتى حفيف أشجار غاباتنا ودخل بنا مناطق جديدة الأفق في غاية الروعة . السودان بكل أقاليمه ومنعرجاته الثقافية والإجتماعية .
” أرض السمر ” سلسلة وثائقية إتخذت طريقة أدب الرحلات ، ترحال ، بين مساحات مسكونة بالواقع والمتخيل ، رصد للطبيعة ، ودخول في أغوار الناس وتتبع مسالكهم في الحياة والمعاش ، لعب معرفي في مناطق الذاكرة الجماعية ، وتدقيق فاحص في مواضع الطمس والقمع والإنجرافات التي حدثت فيها لحظات النكوص والإنتكاس ، على حساب الذاكرة الاولى الأصيلة ووتمكين الجمهور لوضع فواصل بينها . بأدوات فنية مبدعة .
ففي بلادنا أعراق من أصالة الثقافات عميقة الأبعاد التاريخية تنتظر أن يتناولها أهل المعرفة بحذر يمسكون بها ، ويرعون جوهرها ، ويحمونها في نفس الوقت من التشتت .
ويحولونها إلى طاقة من ممسكات السلام والوحدة ونشكل بها حاضرنا ومستقبلنا .
لا في موميات – حسب محمد المهدي المجذوب – وإنما في أعمال حية متجددة تصير جزءا من العيش والسلوك .
السودان ليس جسرا ولا حدودا إدارية متحركة مادامت له الخصائص التي تجعل له حدودا من آدابه وفنونه .
السودان بتقاسيم صورته وظلال ألوانه المتعددة تداخلا ، وتشابكا وتقاطعا ، وحتى ” عسلية ” عيون أهله ، تجد ذلك كله يبرق لامعا في كل سلسلة من سلاسل ” أرض السمر ” .. أحد أكبر المشروعات الإبداعية الثقافية الصريحة المواقف في تلفزيون السودان .
” سيف الدين حسن ” من المخرجين الذين يمتلكون براعة باهرة في إظهار الصوت الخاص المميز للسودان ، وفي هذا المنعطف الفكري الرؤيوي الحاسم ، من تاريخ السودان .
فالناظر الناقد إلى منجزه يجده أكثر إلتصاقا بالواقع ، وأكثر فلسفية في محتوى أعماله ، إذ ، هو يتوق وباستمرار إلى أن يتخطى المظهر والقشرة وأن يلمس لب اللب ، نبض حيوات الناس الكائنة والعلاقات بينهم ، في وجودهم المزري حيث يتخبطون ، والقيم الروحية إما أن تختفي أو يداس عليها بوحشية أكبر يوما بعد يوم .

الدكتور فضل الله أحمد عبدالله

Exit mobile version