عزمي عبد الرازق: ماذا أراد أن يقول فيلم ”مُحمّد رسول الله“ ؟

نحو ثلاث ساعات أنفقتها في مشاهدة الفيلم التاريخي ” مُحمّد رسول الله” للمخرج الإيراني مجيد مجيدي، وقد وجدت نفسي منذ البداية، عالقاً في موجة من الأسى الرهيب، وأدخلني الفيلم، الذي يعرِض بمؤثرات بصرية وفنية عالية، قصة ولادة النبي وطفولته حتى سن 13 عاماً، أدخلني وربما كل من شاهده، في حالة روحانية وشعورية، لدرجة يصعب معها كبح العواطف الدينية، مع تصوير الأجواء المحيطة بالأم الأرملة والطفل اليتيم غير العادي، وهى تقريباً تكاد تلامس تجربة ميل غيبسون في (آلام المسيح)، لكن المخرج الإيراني هنا ألزم نفسه بالنطاق السردي والمحاذير الدينية العربية، أي عدم إظهار وجه النبي وكذلك الملائكة.

الرسالة الضمنية للفيلم
تأخذك المشاهد أحياناً بطريقة خاطفة من الحاضر، إلى سنوات وأيام، شديدة الخصوصية، وهى الأكثر حضوراً وتأثيراً في حياة المسلمين، بكل رمزيتها، دون أن يُشبع المخرج تخيلاتك كلها، لكنه يغازلها من خلال السفر بك عبر الزمن إلى هنالك، وغمسك في الأحداث التاريخية، كأنك جزءاً منها تتفاعل معها بكل حواسك، وهى تجربة مختلفة، لشخص شاهد فيلم الرسالة للمخرج السوري مصطفى العقاد، وأفتتن به، بكل الصور القرآنية التي حفل بها، والمشاهد البطولية، لكن هنا، البطل مختلف، والحبكة كذلك، رغم أن الأحداث هى نفسها تقريباً، وقد تبادر إلى ذهني ذلك السؤال، مع بداية المشهد الافتتاحي، بزوغ الشمس من وراء جبال مكة، وهى شمس الإسلام، ما الذي أراد أن يقوله المخرج الإيراني مجيد مجيدي، لدرجة الاستعانة بالمصور الهولويدي ستورارو، الذي تظهر لمساته في معظم المشاهد؟

يبدأ العمل، الذي بلغت تكلفته 40 مليون دولار، بتنويه لتدراك أسئلة المشاهدين، وهو أن ما يتم عرضه في هذا الفيلم مأخوذ من الروايات التاريخية، وكذلك من “الإنتقاءات الحرة التي ألممت به عن شخصية نبي الإسلام الأعظم محمد صل الله عليه وسلم، وعلى هذا الأساس تم التصوير”، حد تعبير المُخرج، لكن الرسالة الأقرب، والأكثر إلحاحاً هو التعبير عن الواقع الوثني والجهل والظلام الذي بدده نور الإسلام، مع التركيز على فترة غنية بالأحداث، وظهور معظم أبناء عبد المطلب في هذا العمل السينمائي، خلال فترات متقاربة، أبي طالب، وحمزة، وأبي لهب، والعباس، ومن ثم والدة النبي السيدة آمنة، بدءاً من لحظة زحف جيش أبرهة علي مكة، والأجواء قبل الهجوم على الكعبة بالأفيال، إلى مشهد الطير الأبابيل وهى ترمي جيش الملك الحبشي بحجارة من سجيل، مروراً بالحوار الذي دار بين عبد المطلب وأبرهة، وخلص إلى تلك المقابلة الموجزة ” أنا صاحب الإبل، وللبيت رب يحميه”، فيما تتحرك الكاميرا دائماً من وراء الهالة النورانية للنبي.

خاصية الفلاش باك
تتحرك كل الأحداث عبر خاصية (الفلاش باك) لتنقل لنا مشاهد مؤثرة عن الأجواء الثقافية والاجتماعية للحياة في مكة قبل وبعد الدعوة، حين يتكئ أبوطالب عم النبي على صخرة، قبالة شِعْب بني هاشم، وهو يستمع إلى تلاوة القرآن، فتتداعى أمامه المشاهد، ولادة النبي، والأنوار التي غمرت مكة والعالم، بأسره، ثم أمنة وهى تبحث عن مرضعة، ومشهد (العقيقة) أمام الكعبة، وفقاً للطقوش القرشية آنذاك، وقد ظل وجه النبي محمد مخفيًا طوال أحداث الفيلم، في بيت حليمة السعدية، وبالقرب من قار حراء، ومع القافلة التي عبرت إلى الشام، كما تضمن الفيلم مشاهد لوفاة والدة النبي السيدة آمنة بنت وهب بقرية الأبواء، والدخول إلى صومعة الراهب بحيرا صاحب البشرى

في هالة من النقاء الروحي يرحل الصبي محمد كتاجر في صحبة عمه أبي طالب، يشيع بين الناس سمعة طيبة في الصدق والأمانة والصلاح، ويبدي تعاطفاً ورأفة بالضعفاء والمضطهدين، يتم التعبير عن تعاطفه في أكثر أشكاله إثارة عندما يطارده حاخامات اليهود، ويصل هو وأبو طالب إلى مدينة ساحلية فقيرة مع قافلة الجمال الخاصة بهم، ويلقي بالقرابين بعيداً، وينقذ أسرة حُكم عليها بالموت لقبول الصلوات، فتندفع أعماق البحر بالأسماك على الساحل.

تفاصيل ومشاهد مُلهمة
تجلت الحبكة في تجسيد الرؤى الإيمانية للمُخرج، منطلقاً من رسم مشاهد لم تظهر من قبل، وبالتعبير عن تفاصيل مُلهمة، والخروج من القوالب النمطية التي طالما تمردت عليها السينما الإيرانية، لكنه تجنب التورط في مشاهد كانت سوف تثير عليه موجة من السخط، مثل عرض حياة النبي محمد وصحابته وفقاً للرواية الفارسية، وهذه نقطة إيجابية لصالح الفيلم، الذي نجح، إلى حد ما، في إعادة انتاج الأحداث الغنية لأم القرى وما حولها في القرن السابع، وقد استعان بمصمم الإنتاج ميلجين كريكا، ومصمم الأزياء مايكل أوكونور، دون أن ينغمس في السردية التاريخية المألوفة، وعلى وجه الدقة فقد حاول أن يعبر عنها بذوق فني رفيع، وحشد لها مشاهد في غاية الجمال، مثل هيجان البحر، والغمامة التي ظللت قافلة النبي، وحركة القطيع، وقد أطلق العنان لنمو الأزهار والفاكهة في حقول يثرب، لكن الصورة الموحية، وهى تقريباً الرسالة التي حملها الفيلم، أنه قدم النبي محمد للعالم، بطبيعته الإنسانية المتسامحة، والرحمة التي كانت تتدفق منه، بلا فظاظة، وبنفحات من النور والتسامي، للذين ليسوا على دراية بقصة الإسلام، وربما كانت تلك مشاهد بسيطة عبر عنها مجيدي بطريقة فنية اعتمدت على كثافة التعبير عن مضمون الرسالة المُحمدية.

البحث عن جائزة
في بضع مشاهد نسمع النبي يتحدث، وأحياناً هناك من ينقل عنه، لكن صوت أبي طالب غلب على سردية الأحداث، في الحقيقة ثمة كاميراً حاولت قول كل شيء عن بداية الإسلام، والأجواء المحيطة بحياة النبي في طفولته وصباه، بالاعتماد على مؤثرات بصرية، وأسلوب في الإخراج تميز بنوع من الخلق والإبتكار وإستخدام تقنيات معقدة، مع الأخذ في الاعتبار أن الفيلم مولته طهران جزئياً ليكون بذلك أكثر الأفلام كُلفة في تاريخ السينما الإيرانية.

ليس مجازفة بالظن القول أن المخُرج مجيدي أراد من وراء هذا الفيلم الحصول على جوائز عالمية، بالتركيز أو خلق مشاهد مؤثرة، كما بدا من المشهد الافتتاحي، وحتى نهاية الفيلم، البطء في سرد الأحداث، أو منحها حقها الكامل في النمو، لكنه أيضاً أدخلنا عنوة إلى عوالمه المرئية، ليضعنا في هبة الانتظار لأجزاء أخرى من هذا العمل الملحمي التاريخي.

عزمي عبد الرازق

Exit mobile version