السودان: الاستيطان في أرض الميعاد الجديدة

بذلت قوات الدعم السريع جهوداً كبيرة لإنجاح المشروع الاستيطاني، وبنت مدناً وقرى جديدة، وقامت باستيراد منازل جاهزة للمستوطنين في هذه المدن والقرى.

لم يقتصر الإعداد للحرب الدائرة في السودان الآن على الجانب العسكري الذي مثلته قوات الدعم السريع فحسب، إنما قام على ركائز أخرى أيضاً، منها آلة إعلامية مثلتها فضائيات خليجية ومنصات رقمية تطلق حملات إعلامية مدروسة من عاصمة خليجية، ومن عواصم ومدن غربية ظلت تضطلع بمهمة صناعة رأي عام يعمل على إضعاف الحس الوطني الاستقلالي، وجعل التماسك الوطني هشاً، وتهيئة الشباب والمجتمع لقابلية الاستعمار.

كان الخطاب السياسي والحاضنة السياسية كذلك من ركائز مشروع الحرب. بُني الخطاب السياسي على عناوين رئيسة، من بينها إعادة السودان إلى حضن “المجتمع الدولي”، وتبني النيوليبرالية بأبعادها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والقيمية، والقبول بوصفات البنك الدولي وشروطه، والتطبيع مع الكيان الصهيوني، والتنكر للهوية العربية والقيم الحضارية. وقد مثلت تلك العناوين مضامين خطاب تحالف الحرية والتغيير “المجلس المركزي” الذي يُعتبر الحاضنة السياسية لمشروع الحرب في السودان بطبيعتها الاستعمارية الاستيطانية.

ما كان لهذا المشروع أن يكتمل من دون توفر العامل الديموغرافي الذي يعتبر حاسماً في المعركة العسكرية من خلال توفير القدرات البشرية لها، ويعتبر عاملاً حاسماً وضرورياً لعملية التغيير الديموغرافي المفضي إلى صناعة سودان جديد يناقض تاريخه السياسي والثقافي والاجتماعي والحضاري.

لهذا، تمت عمليات تهجير مدروسة من عربان الشتات الذين تعثر عليهم الاندماج في مجتمعات دول الساحل والصحراء الأفريقية بعد هجرتهم إليها منذ القرن الخامس عشر الميلادي، فتم تهجيرهم من تشاد والنيجر ومالي وأفريقيا الوسطى وليبيا وبقية دول الساحل الأفريقي إلى السودان. وقد وفرت دولة خليجية المال اللازم لعمليات التهجير والاستيطان داخل السودان.

ولأن هذا المشروع هو مشروع تغيير شامل لا يتحقق ولا يكتمل من دون الاشتغال على هذا العامل، فقد حظي باهتمام كبير، إذ تمت عمليات تهجير واسعة النطاق خلال السنوات الأربع الماضية بلغت بضعة ملايين من أعراب الشتات إلى السودان؛ أرض الميعاد الجديدة، وتم توطين هؤلاء المهجرين في دارفور ووسط السودان وشماله، وعلى امتداد نهر النيل.

وتشير المعلومات إلى أن مليوناً ومئة ألف من هؤلاء المهجرين استخرجت لهم قوات الدعم السريع أرقاماً وطنية وجوازات سفر سودانية من مركزين أسَّستهما لهذا الغرض؛ أحدهما في جنوب ليبيا، والآخر في دولة مالي.

وتم وضع خطة متكاملة كذلك لعمليات الاستيطان، كان التركيز فيها على الجغرافيا ذات الخصوصية التاريخية والاقتصادية، كما هي الحال في الشمال والوسط وعلى امتداد نهر النيل، وكان التركيز على الموقع الجغرافي المرتبط بالصراع العربي الأفريقي، مثل دارفور، التي ترتبط بحدود مع بعض الدول التي تم تهجير المستوطنين منها، فتم شراء الأراضي والمزارع في الشمال والوسط وعلى النيل وتوطين المستوطنين فيها، وتم ذلك في بعض ولايات دارفور الخمس.

كما تمت عمليات توطين المستوطنين في الخرطوم بعد طرد السكان وتهجيرهم من منازلهم، وتكرر ذلك في ولاية غرب دارفور، بعدما قامت قوات الدعم السريع بعمليات تطهير عرقي فيها بتاريخ 14/6/2023، راح ضحيتها 5200 شاب ورجل في يوم واحد في مدينة الجنينة عاصمة الولاية وحاضرة قبيلة المساليت صاحبة الأرض والتاريخ في هذه الجغرافيا. وقد شبه البعض هذه المجزرة بمجزرة دير ياسين في فلسطين.

وبعدما قامت قوات الدعم السريع في ذلك اليوم بقتل شباب هذه القبيلة ورجالها، طردت نساءهم من المدينة إلى دولة تشاد المجاورة، وذبحت الأطفال الذكور المرافقين لأمهاتهم، ولم يسلم من الذبح حتى الأطفال الرضع. وفي اليوم التالي لهذه المذبحة، قتلت قوات الدعم السريع والي الولاية خميس أبكر بعدما اعتقلته.

لم يكن مشهد التصفية والتطهير العرقي مشهداً حصرياً في مدينة الجنينة، فقد تكرر في مدينتي زالنجي وكاس، كما تكرر في مدن وقرى أخرى في دارفور، ومثلت منطقة الزُرق مثالاً خاصاً، إذ حدث فيها إحلال سكاني طُرد بموجبه سكانها التاريخيون، وجُعلت مستوطنة خاصة بأسرة قائد الدعم السريع.

بذلت قوات الدعم السريع جهوداً كبيرة لإنجاح المشروع الاستيطاني، وبنت مدناً وقرى جديدة، وقامت باستيراد منازل جاهزة من خارج السودان لتكون سكناً للمستوطنين في هذه المدن والقرى، ووفّرت فيها من الخدمات ما يخاطب حاجات المستوطنين وتطلعاتهم.

وقد استكملت ذلك في الخرطوم التي طرد الدعم السريع غالبية مواطنيها من أحيائهم السكنية ومن بيوتهم، ووطّنت فيها المنتسبين إليها وذويهم المهجرين من دول غرب أفريقيا، في تكرار لما حدث للفلسطنيين على أيدي الاحتلال الصهيوني في القدس.

محمد حسب الرسول -باحث في الشؤون الإقليمية – الميادين

Exit mobile version