مكي المغربي: الحكومة والمخرج و”نظرية طبق البيض”

هب أنه لديك شحنة من “الورق الفاخر” من جنوب أفريقيا وتريد شحنها من كيب تاون إلى تونس، هل ستأخذ طريق الأطلنطي إلى مضيق جبل طارق، أو تأخذ طريق باب المندب عبر قنال السويس؟ المفاضلة هنا ليست بالمسافة والزمن فقط، هنالك رسوم عبور، وهنالك عوامل أخرى مثل الرطوبة والحرارة لزمن أطول والتي قد تؤثر في الجودة، وهذه عوامل تحتاج إلى استكشاف وسؤال، وتفكير عقلاني غير كسول ولا متوجس.

في الواقع الآن، المفاضلة في السودان ليست بين انتصار الجيش والصف والوطني وهزيمته، فالشعب انحاز للجيش والصف الوطني وأغلق الباب على عودة المليشيات كلها وليس الدعم السريع وحده، وأسقط الفيتو الكاذب على أبناء الوطن إسلاميين أو غيرهم، وهو يريد “القوي الأمين” دون التفات للهواجس الخارجية، ومن المستحيل محاولة إعادة إنتاج حكومة (قحت – الدعم السريع – الوصاية الأجنبية) أو أي شكل احتكار أو إقصاء أو “فزاعة”، هذا مستحيل وربما يكلف من يحاول ذلك ثمنا غاليا جدا، أو على الأقل كما يقال He will be named and shamed
السؤال هو، هل يتم ويكتمل هذا الانتصار للجيش والصف الوطني بطريق الإذعان للضغوط الخارجية ومرواغتها ومساومتها والتحرك ببطء عبر جبل طارق؟ أم يتم بتحرير الخيارات الوطنية واتخاذ القرارات الضرورية “كما يجب” ولتكن بعد ذلك المهارة في الإخراج وتحمل الضغوط وتخفيفها، وهو إتخاذ طريق باب المندب مع سداد رسوم العبور؟

أوضح مثال لهذه المفاضلة هو “قضية الإستنفار” والتي حسمت في النهاية لصالح عودته.
ظللت منذ اليوم الخامس للحرب، وأنا “أنبح” واعذروني على هذه المفردة، لكن التاريخ سجل لي دعوة مبكرة وجهيرة للإستنفار الشعبي الشامل وإسقاط مخاوف عودة الكيزان، ولم يكن هذا شكا في قدرة الجيش ولكن خفضا للتكلفة الباهظة بسقوط الأحياء السكنية، والتقدم خطوة للأمام، إذ بمجرد تجنيد الشعب نظاميا تحت إمرة الجيش تضمن عدم الفوضى المسلحة والإرهاب وتضمن تعزيز الصف الوطني الملتف حول الجيش. الآن معظم الشباب في غالب الولايات تدربوا وسجلوا أسمائهم وصاروا في “عهدة الجيش” وليس مليشيات أهلية، وصار الشباب المجاهد المتطوع “السم النقوع الفي البطن نتاح” للتمرد في ارتكازات المدرعات المتقدمة ومناطق أمدرمان. ماذا فعل “الخارج المرعب”!؟ ازداد احترامه للحكومة، بل صار التفاوض والعروض السرية حول ايقافهم مقابل توفير فرص أفضل للجيش والتضييق على الدعم السريع، وهو ليس خيانة للشباب المجاهد الذي انحاز للجيش، لأن قضيتهم الأساسية ليست حب الظهور إنما إنتصار حقيقي وحاسم للجيش والوطن، وبعدها يعودوا لحياتهم المدنية التي جائوا منها.

المصباح أبو زيد قائد كتيبة البراء الفدائية الذي زاره قائد الجيش في مستشفى عطبرة هو تاجر أواني منزلية ومن معه أطباء ومهندسين ومعلمين وموظفين ويعيشون حياة مدنية عادية تماما، ولكنهم لبوا نداء الوطن والجيش، وبعد الحسم ليست لديهم مطالب تعيين وزراء أو ولاة، وأن كان بعضهم جدير بها، بل قلامة ظفره تسوى خبراء قحت من “عمال الدليفيري” في أوربا وأمريكا الفاشلين أسريا ومهنيا.

في الأيام الأولى ومنذ استباحة “الدعم السريع” للبعثات الدبلوماسية تيقنت أن هذه المليشيا لن تؤثر فيها قوى خارجية ولن تلجمها قيادتها، وأن “الدعم القذر” لها من الخارج وممن يزعمون أنهم اصدقاء السودان لن يهتم بصورتها بل بسقوط مناطق عسكرية بيدها، وأنها ليست بالخصم العاقل الذي يمكن إبرام أي اتفاق معه، ولا بد من إعادة السودان إلى “ضبط المصنع” قبل سنين قحت الغبراء بسرعة ودون تردد لأن الفايروس خطير ومدمر للغاية.

اجتهدت القيادة -بسبب فزاعة الخارج الموروثة من قحت- في تفادي الإستنفار الذي يعيد الإسلاميين للمشهد، ولجأت لاستنفار المعاشيين، وهو ما أدى إلى تزايد إغتيالهم في بيوتهم بإدعاء المليشيا أنهم الآن كلهم جيش، وبات من المؤكد ضرورة الإستنفار الشعبي الشامل.
حدث تماطل ولا يزال حول عودة جسم تنسيقي يشبه منسقيات الدفاع الشعبي سابقا. وأقول لكم، سيعود مثل هذا الجسم لأنه هو الذي ينظم التبرعات والمتطوعين لان طبيعة عمله “مزيج نظامي مدني”. سيعود هذا الجسم، لأنه يخفض التكلفة على الجيش ويعزز دور المشاركة الشعبية، سيعود على الأقل في شكل أمني شرطي لأن تحديات ما بعد الحرب ليست أقل من تحديات الحرب بل أسوأ.

الأفضل للقيادة -دون تردد- إعادته وتأمين بقية المدن والولايات من التلفتات الأمنية لا سيما مناطق النشاط التجاري والزراعي والصناعي والا سيبقى السودان مستوردا للصلصة من السعودية والمياه من الأردن وسيقفز الدولار إلى خمسة آلاف.

أيضا هنالك تحد آخر، وهو إعادة تشغيل الجهاز التنفيذي والولايات والمحليات وعددها (133 محلية) بكفاءة عالية، سيخضع هذا المطلب لذات المفاضلة، طريق باب المندب أم جبل طارق؟ هل تتخذ القيادة القرارات اللازمة لتشغيل البلد وتعيين الكفاءات المحلية دون الخضوع لفزاعة الخارج، أم تتريث وتتوجس وتتهجس من عودة الإسلاميين وتعتقد أن هنالك فسحة من الزمن وأن الخارج سيقدر ويثمن ما تقوم به ويكافئها على الاستمرار فى إقصائهم؟

لدي نظرية أنا مشهور بها وسط زملائي الصحفيين الأفارقة وهي “نظرية طبق البيض”، فقد كانت مدينة جيبوتي غالية جدا بالذات المطاعم في الفنادق التي تعمل لوقت متأخر، ونحن نحب السهر والنقاش، فاقترحت عليهم “ميز” داخل السكن للعشاء، ولم يكن هنالك خيار رخيص سوى البيض، وكنا نشتري الطبق ونسلقه كاملا ونأكله بالخبز الحاف. بالليل توجد كلاب في الطريق الوعر المتعرج، وما أن تحركت من المتجر اجتمعت حولي، قررت أن أرمي بيضة فانشغلت بها، ثم لحقت بي منتصف الطريق، فالقيت ثانية، وبالقرب من الباب ألقيت الثالثة، وحكيت لهم القصة، بعد يومين تأخرنا في العودة فخرج صديقي ليلا وطبق ذات النظرية ونجحت، وصرنا نستخدمها في العمل، عندما يتأخر أحدنا في فيزا أو كرت صحي في المطار يقول سأرمي بيضة وألحق بكم، وعندما يكون هنالك استخلاص حقوق من منظمة أو فضائية يتسائل بعضنا هل الموضوع محتاج بيض؟

هذه الطرفة تؤكد لي أنك أحيانا تعرف انك ستتخذ القرار وتمضي فيه وتعلم تماما انك ستدفع الثمن في الطريق، تشتري طبق البيض وتعلم أن للكلاب فيه نصيب.
الحكومة تحتاج إلى من يفاضل بين باب المندب وجبل طارق ويحسب التكلفة، وتحتاج إلى من يفكر بنظرية طبق البيض، تحتاج إلى من يحرر القرار الوطني تماما، ويفاوض وهو ينفذ فيه في الطريق ولا يفاوض على إتخاذه من الأساس.

مكي المغربي

Exit mobile version