الإصطفاف الجديد جعل الجيش والكيزان والسلفيين والصوفية والشيوعيين وهيئة العلميات والبراء بن مالك وغيرهم في جانب واحد

صحفية قحاتية كتبت مقالاً انتقدت فيه مواقف ما يُسمى “الجذريين” من منسوبي ثورة ديسمبر. قالت إن هؤلاء الجذريون هاجموا أحزاب قحت وخونوها ولم يستحملوا حتى ندواتها، ولكنهم بعد اندلاع الحرب الأخيرة اصطفوا مع الجيش وبعضهم أصبح في خندق واحد مع الكيزان علي كرتي وعتاة الكيزان.

هذه فعلاً مفارقة مثيرة من زاوية معينة، ولكنها من زاوية أخرى تصبح أكثر عادية وأقل مفارقة. الزاوية الأولى هي الزاوية التي نظرت من خلالها الصحفية القحاتية، وهي زاوية سكونية تتجاهل التغيير الهائل الذي حدث بعد الحرب، تتعامل مع الواقع ما قبل الحرب وما بعدها ككل متصل متجانس ومتماثل وثابت، واقع ساكن. وبالتالي يبدو موقف هؤلاء الجذريين متناقضاً حقاً.

كانوا يهاجمون قحت وأحزاب قحت لأنها جلست مع العسكر ولأنها تساهلت مع الكيزان، ولكن هاهم ينحازون إلى معسكر العسكر والكيزان (هو طبعاً معسكر كل القوى الوطنية ولكن القحاتي يراه هكذا)؛

فالجذريون تسامحوا مع اعداءهم ولكنهم لم يتسامحوا مع القوى المدنية التي هي صفهم ولها نفس قضيتهم. ولكن لو دققنا أكةر سنرى أن هذه المفارقة ليست كالمفارقات العادية التي تحدث في واقع محدد ثابت متجانس يمنحها طابع المفارقة كشيء مختلف وغريب.

في الزاوية الأخرى نرى أن الحرب قد خلقت واقعاً جديداً وسياقاً مختلفاً؛ لحظة جديدة وأفق جديد مغاير ومختلف مع زمن وأفق ما قبل الحرب. إنه أفق معركة الوجود ومعركة الكرامة بالنسبة لشعب كامل.

فالإصطفاف الجديد الذي جعل الجيش والكيزان والسلفيين والصوفية والشيوعيين وهيئة العلميات والبراء بن مالك والكفار والملاحدة والجذريين والتوافقيين وغيرهم كلهم في جانب واحد في هذه الحرب هو جزء من سياق مختلف كلياً عن سياق ثورة ديسمبر وإن كانت هناك علاقة زمنية وسببية بين السياقين ولكنهما مختلفين. ولذلك فليس هناك غرابة في هذا الاصطفاف الوطني الواسع، وأن يجمع كل هذه الأطياف هو أمر طبيعي.

الوطن يجمع الناس مثلما جمعتهم الثورة من قبل، ولكن معركة الوطن اليوم أكثر جدية بحيث تجعل ثورة ديسمبر تبدو كحماقة طفولية، وهي أيضاً أكثر وضوحاً. وعليه فإن الديسمبري الجذري الذي يقاتل مع الجيش وفي نفس الخندق مع المجاهد الإسلامي هو ليس الشخص نفسه الذي كان في ثورة ديسمبر، هو شخص بوعي جديد مختلف. ولذلك فهو ليس متناقض وإنما مختلف. المفارقة هنا مفارقة بين سياقين مختلفين وليست متعلقة بموقف مجموعة محددة مثل غاضبون أو غيرهم.

القحاتة بطبيعة الحال ما يزالون في الواقع القديم، واقع ديسمبر، الثورة والفترة الانتقالية وشعارات الديمقراطية والتقسيم القديم للناس. ما زالون يعيشون في زمن ما قبل 15 أبريل حيث الاتفاق الإطاري وقوات الدعم السريع وتصنيف القوى السياسية والاجتماعية إلى قوى ثورة وديمقراطية وإلى أعداء الثورة والثورة المضادة والجذريين ووو. وهذا زمن قد تجاوزه الزمن.

فقحت ما تزال في حالة استمرارية واتصال من حيث الوعي والتصور والممارسة ما تزال بنفس العقلية القديمة وبنفس الرؤية، وما تزال تريد أن تحكم طبعاً وأن تمارس الوصاية على الشعب السوداني وأن تنتقد وتحاسب الجميع. ما تزال تظن بأنها هي من يضع المعايير، وهذا محرد وهم.

ولذلك، فقحت لا تزال بالنسبة للحذريين عبارة عن خونة، مستمرين في نفس خط الخيانة وعدم الشرف. وإذا كان الكيزان أعداء للثورة ولقوى الثورة فعلى الأقل هم أعداء بوضوح والمعركة الوطنية تجمع الأعداء في خندق واحد، لذلك هي وطنية.

ولأنها معركة وطنية ومعركة شرف وكرامة فهي لا تجمع الشرفاء مع والخونة. الأعداء يمكن أن يلتقوا في قضية الوطن، ولكن من المستحيل الالتقاء مع الخونة، وبالذات في معركة الوطن!
ولذلك، لا توجد مفارقة بالمعنى الدقيق للكلمة.

حليم عباس

Exit mobile version