التحرر من قيد المكان والتحكم في المشهد ١-٢

‎‎لا يمكن لأحد الكتابة عن الحرب من زاوية نظرية دون أن يكون قد قرأ ميكيافيلي بقلب مفتوح ولئن كان سوء قراءة كتابه الأمير قد غطى على الموهبة الباذخة لهذا المفكر والفيلسوف العبقري، فإن حاجتنا في السودان تبدو ملحة الآن لتبرئته من تهمة الميكيافيلية الشنعاء والتي ارتبطت بإسمه، وإعادة الاعتبار له.

‎قال ميكيافيلي في كتابه (فن الحرب) إنه لاحظ “في سلوك العديد من الجنرالات القدماء أنهم عندما كانوا يعرفون أين يضع العدو القوة الرئيسية لجيشه فإنهم يقومون بتوجيه أسوأ المجموعات في قواتهم للاشتباك مع هذه القوة فيجعلون أفضل قوات العدو منشغلة بالعراك مع أسوأ قواتهم”.

‎هل لاحظتم أنه طوال موجات الهجوم المتتالية خلال الأيام السابقة أن *قوات الدعم السريع المتمردة كانت تهاجم قيادة سلاح المدرعات بالشجرة بأسوأ قواتها تدريباً وأقلها ارتباطاً بالنخبة القبلية المسيطرة عليها حتى أنهم استخدموا ناشطاً اشكالياً معروف بفساد الذمة وضعف المحتد السياسي، دون أن يحصل على التدريب العسكري اللازم؟ * . اختفى من معارك المدرعات غالبية الضباط والجنود الذين كانوا حضوراً في أشهر الحرب الماضية، وتم الزج بجنود تم تدريبهم على عجل من *الفئات الضعيفة اجتماعياً في الخرطوم والتي ظل كسب عيشها مرتبط بالعنف غير المنظم سابقاً، والعنف المنظم نسبياً حالياً.*

‎هكذا حققوا فكرة ميكيافيلي في شغل أفضل القوات العسكرية في الجيش السوداني بالعراك مع أسوأ قواتهم حتى إذا فتكت القوات الحكومية بهم انسحبوا تاركين قتلاهم دون تكريم وجرحاهم في منتصف الطريق إلى الموت.

‎من العالم الآخر أعاد بيان عسكري مطول قائد قوات التمرد محمد حمدان دقلو (حميدتي) ليقول كلمتين عن معركة سلاح المدرعات وليعيد لقواته الثبات الذي فقدته ويحاول صنع أيقونة غير عملية من منشئات سلاح المدرعات، وكأن معركته أصلاً كانت ضدها وليس بغرض السيطرة على حكم السودان لخدمة أجندة أجنبية مستحيلة التحقق.

‎حقق الجيش السوداني انتصاراً عملياً كبيراً على قوات التمرد بمعايير الشطرنج الحربي وخسارات الجنود، لكن هذا يكفي لطرح أسئلة مهمة -في تقديري- من نوع:

‎ما هي أهمية مبنى سلاح المدرعات؟

وما هي القيمة العسكرية الفعلية لهذه الوحدة عالية التدريب وهي لا تشارك في القتال وتحرس هذا الموقع بشكل أساسي؟

‎*لماذا يولي العدو المتمرد والقيادة العامة للجيش هذا الموقع هذا الاهتمام الذي لم يوفره أيهما للقصر الرئاسي والمطار الرئيسي ووحدات سلاح الإشارة ورئاسة جهاز المخابرات، وفوق ذلك مصنع اليرموك التابع لوحدة التصنيع الحربي بوزارة الدفاع والذي ظل هدفاً استراتيجياً لهجمات إسرائيلية وعربية قوية وناعمة؟*

‎بغض النظر عن أهمية سلاح المدرعات في القدرة على صناعة الحكام الانقلابيين أو مقاومتهم فإن هذه الأهمية تبدو الآن غير ماثلة في حرب المدن هذه التي تحسم معاركها القصيرة بسرعة بالأسلحة الخفيفة.

‎*كيف سيستفيد العدو المتمرد من السيطرة على موقع سلاح المدرعات وكيف سيتمكن من الحفاظ عليه إذا انسحبت القوات منه؟*

‎هذه كلها أسئلة أحسب أن الإجابة عنها لا تنتج إلا توصية عاجلة بسحب القوات والآليات وإعادة نشرها في الخرطوم في أماكن قد تكون أكثر فائدة وخدمة لمشروع هزيمة العدو. أكتب هذا دون أن يكون في ذهني التفكير في طرح مقترحات وأنا أكتب من مكان بعيد جغرافياً عن الحرب وإن كان قريباً من ضررها البالغ.

‎يريد العدو السيطرة على مقر قيادة سلاح المدرعات دون حاجة للدبابات التي قد تكون فيه أو قدرة على تأمين المكان، وهكذا فإن بقاء القوات الحكومية في هذا الموقع لا يعدو على كونه توفيراً لقوات النخبة كي تنشغل بقوات السفح.

‎قال سن تزو في كتابه الخالد عن فن الحرب ” *يجب أن تكون تحركات العدو بناء على إشارات نرسلها نحن إليه،* وبذلك نبقيه في الموقع الذي نريده له”.

‎ألا يريد الجيش أن تتكدس قوات التمرد في هذا المبنى الواسع؟ إذن أرسلوا له الإشارة ليدخلها والبادي أظلم.

‎من ناحية استخبارية فإن هذا الموقع صار مكاناً مكشوفاً ومتاحاً وغير آمن فقد كشفت موجات الهجوم عن استحكاماته وحصونه، وكشفت شبكة الإنترنت عن إحداثيات المباني والمنشآت فيه، وكشفت مقاطع الفيديو على وسائل الإعلام الجديد عن طبيعة مبانيه وقدرتها على الصمود، وهكذا فإن حراسة هذا الموقع تصبح عبئاً على الأسود الذين ينبغي تركهم بلا حدود تقيد حركتهم، أو تجعلهم في مرمى نيران العدو الذي تتغير خططه باستمرار في غرف العمليات دون أن يقترب ولا مرة من تحقيق الهدف من حربه الخاسرة.
‎الجزء الثاني غداً إن شاء الله

محمد عثمان إبراهيم

Exit mobile version