تشهد منتديات السودانيين على مواقع التواصل الاجتماعي نقاشات متواصلة حول مواقف السياسيين والشخصيات العامة في شأن تطورات الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” منذ منتصف أبريل (نيسان) الماضي، إذ يجري تتبع تلك المواقف من خلال تصريحات السياسيين في وسائل الإعلام المختلفة وتصنيفها إما في خانة الوطنية أو الخيانة.
فالسودانيون منقسمون إلى فريقين، الأول يرفع شعار “لا للحرب، ونعم للحل السياسي” عبر المفاوضات بين طرفي القتال، والآخر يدعو للحسم العسكري من جانب الجيش بإنزال الهزيمة بقوات “الدعم السريع”.
لكن ما هو أثر هذه التصنيفات والاتهامات التي تستخدم فيها عبارات قاسية مثل التخوين والعمالة على واقع السودان السياسي والاجتماعي الحالي، وعلى استقراره في مرحلة ما بعد الحرب؟
اختصاصي الطب النفسي عمرو إبراهيم مصطفى، يقول إن “التخوين في زمن الحرب هو نوع آخر من الحرب، لأنه يستهدف الشخصيات لاغتيالها معنوياً، وهي حرب تفتقر إلى الأخلاق لأنها تضرب في عمق المجتمع، وتمتد آثارها لما بعد انتهاء المعارك، إذ قد تصبح سلوكاً شائعاً في المجتمع فينهدم بفعلها”.
ويضيف “معلوم أن التخوين سلاح يستخدمه الضعفاء الذين يختبئون خلف أزرار الهاتف النقال أو كيبورد الكمبيوتر، فيكون الهدف هنا إخفاء صوت العقل وتحجيم الحكمة وإسقاطها لتبقى الحرب مشتعلة. بالتالي فإن التخوين نوع من الحرب التي تحشد فيها الأدلة الزائفة، ويثار فيها العوام من الناس باستخدام العاطفة الوطنية أو القبلية أو الجهوية ليصبح الجميع على طرفي نقيض، إما مع أو ضد، وتسكت الحكمة في العقول خوفاً من قول الحق، وعندها تخلو الساحة لمن يخون ليصبح المتحكم فيها، ثم يبدأ في توزيع صكوك الوطنية والولاء على من أراد من تلك القلة التي تسير مع مشروعه”.
وزاد “في الحروب التي تمس الوطن ليس من السهولة إعلان الحياد، إذ يكون الولاء للوطن هو الفيصل بين المتقاتلين، وفي رأيي أن الحياد في قضايا الوطن خيانة، لكن لكي تكون مع الحق ينبغي أن تكون مع مصلحة الوطن أولاً، وليس هنالك مصلحة للبلاد خير من السلام العادل الذي يحاسب من انتهك ويسعى لإصلاح ما فسد”.
ويواصل اختصاصي الطب النفسي قائلاً “إن آثار الحرب النفسية التي تتعلق بالتخوين تنتهي بوجود جماعة شجاعة من أفراد المجتمع تصدح بالحق وتقاتل بالكلمة والفكر والمنطق ولا تنجرف إلى طمس الحقائق، وهنا يكون تكرار قول الحق هو الوسيلة الناجعة لمقاومة الإشاعات، بالتالي تثبت الحقائق في عقول العوام من الناس وتنتشر رويداً رويداً لتحل بديلاً عن التزييف، وتسود مشاعر الشجاعة فتنحسر في المقابل مشاعر الخوف”.
يعتبر مصطفى أن “التخوين وسيلة لإذلال المجتمع وتخويفه، فهو طريقة لنشر خوف آخر غير الخوف من القتل، وذلك عبر اتباع أسلوب الإقصاء الذي يمارس بكثرة في المجتمع السوداني تجاه كل مخالف في الرأي حتى ولو كان صحيحاً”.
وأردف “لكن في اعتقادي أن المجتمع الواعي هو من يعرف كيف يفكر وينتقد ما يسمعه بدلاً من التصديق المباشر الذي يشبع الرغبات في وجود أعداء متخفيين، فتدفعه تلك المشاعر إلى التصديق من دون تفكير، لذا فهذا الاندفاع الذي تكون خلفه مشاعر الثقة في القائل بالتخوين هو المصيبة الكبرى، لأنه يلغي العقول ويدمر مهارة التفكير والتحليل ويعطي هذه القدرة لآخر يقرر من هو الخائن ومن هو الوطني”.
ولفت إلى أن “على المجتمع إدراك أن تلك القوة التي تعطى للآخرين يمكن أن تدمرهم بداية، وأنه آن الأوان لهذا الشعب أن ينتصر على نفسه وكرهه وغضبه عن طريق الوعى فضلاً عن الاتجاه للوحدة، وأن يعرف أن العدو الأول له هو الجهل الذي يفرز الواقع الذي نحن فيه الآن”.
وأكد اختصاصي الطب النفسي أن “التخوين هو قمة الجهل، بل هو الأداة الظالمة لمن في يده قوة اللعب بالعقول، لكن المعرفة والوعي بهذه الطريقة هو الترياق القوي للشفاء، ويجب أن يعرف الشعب أن المؤسسات الرسمية العادلة هي من تملك الحقائق التي تتحصل عليها بالطرق المعروفة والرسمية والاستخباراتية والبوليسية، ومن ثم تحلل وتناقش ويكون للمتهم حق الدفاع عن نفسه لأن الخيانة أمر عظيم وجريمة كبرى، لكن غياب العدل أشد إجراماً وأكثر فتكاً، وهو المدمر الأول للبلاد”.
من جانبه، يرى المحلل السياسي الحاج حمد، أن “شكل التخوين الذي يمارس حالياً بين السودانيين هو أحد أمراض السياسية السودانية، ففي السابق كان اليسار يتهم اليمين بالعمالة والتبعية وغير ذلك، وفي المقابل كان الأخير يتهم اليسار بالكفر والإلحاد والاستقواء بالسفارات، فهذا النوع من العداء تقليدي وموروث تاريخياً بخاصة خلال مراحل الانتقال”.
ومضى حمد بالقول “الشارع السوداني تمكن من الانتصار لنفسه بإسقاط أطول حكم استبدادي في تاريخ البلاد والذي استمر 30 عاماً، لكن المؤسف أن القوى المدنية التي جاءت إلى السلطة فشلت على مدى أربع سنوات في وضع البلد على المسار الصحيح، فبدل الاهتمام والتركيز على الأولويات كإعادة تأهيل الأجهزة القضائية والعدلية وغيرها من القضايا الملحة انشغلت بصراعاتها الداخلية مع بعضها بعضاً، ولم تكن لديها برامج واضحة المعالم وبخاصة الأحزاب الكبيرة، وأعني حزبي (الأمة) و(الاتحادي الديمقراطي)، ومن الأسباب التي أدت إلى تشوه الحياة السياسية عدم وجود قانون يشجع الأحزاب على تبني الديمقراطية داخل مؤسساتها”.
وبيّن المحلل السياسي أن “ما يحدث الآن من اتهامات بالتخوين هو تكرار لما جرى خلال المرحلتين الانتقاليتين الماضيتين (1964 و1985)، فالواقع أن الجيش مؤسسة وطنية تضم في داخلها تيارات سياسية مختلفة، وهذا معروف تاريخياً وليس سراً، فضلاً عن أنه يضم كل شرائح المجتمع السوداني، لكن الملاحظ أن هناك اصطفافاً واضحاً باتجاه الخارج من قبل القوى المدنية السياسية والجيش وقوات الدعم السريع”.
اسماعيل محمد علي – اندبندنت عربية