كانت رغبتي زيارة القاهرة بمُلاطفات الإحسان، فقادتني لها تصاريف الأقدار بسلاسل الامتحان
كانت رغبتي زيارة القاهرة بمُلاطفات الإحسان، فقادتني لها تصاريف الأقدار بسلاسل الامتحان ..و رغم الظرف المُتكدّر الذي اقتادني؛ إلّا أنّ ذلك لم يُكدّر صفو صورتها التي انطبعت في نفسي عبر التماس الثقافي الأزلي معها قراءةً و سماعاً.
– و رغم نزولي في إحدى المدن الجديدة شرق القاهرة، إلّا أنّ القاهرة القديمة أسرتني للغاية؛ فهي جميلة، و حيّة، و فاتنة ..تماماً كما قرأنا عن شوارعها و أزقتها في روايات نجيب محفوظ، بعطفة الحرنفش و قصر الشوق و الجمالية و الفيشاوي، و ما طبع فينا مزاجها منذ أراجيز إمام عيسى و حتى ” الميدان كنت فين من زمان”.. منظر القاهرة القديمة من أعالي المقطم أو القلعة مهيب للغاية، فمآذنها العالية مع المنازل و الشوارع تشعر في ذلك تصافُح التاريخ منذ الفاطميين و حتى أيام نجيب محفوظ.
– من ملاحظاتي أنّ الشارع المصري عموماً شارِع محافظ، لا كما يبدو من إعلامه المتمثل في المسلسلات و الأفلام و البرامج عموماً ..و لاحظتُ أيضاً أنه و رغم إيقاع الحياة السريع في القاهرة عموماً؛ إلّا أنّ صلاتهم غاية في السكينة و الهدوء و الخشوع، فقد صليتُ في عدد غير قليل من مساجدها و اطّردت عندي هذه المُلاحظة، جماعات أو أفراد، شيباً أو شباباً، تلاوات خاشعة، ركوع طويل و سجود طويل .. و أظنه أثر معقول من الآثار الباقية لإحدى حواضر العالم الإسلامي الأكثر زخماً منذ فسطاط عمرو بن العاص حتى المماليك و العثمانيين.
– أمّا الأزهر و ما أدراك ما الأزهر … فيصدُق فيه قول القائل:
” قُم في فمِ الدُنيا و حيِّ الأزهرَ .. و انثُر على سمع الزمان السُكرَ ”
المهابة التي تنقذف في النفس عند الدخول لساحة الجامع الأزهر، ذي الوزن التاريخي و العِلمي الشرعي؛ أظْهَر ما يكون … فمن هنا خرجت جمهرة من علماء و فقهاء العالم الإسلامي في شتّى الفنون ..فكان مقصداً يحج إليه الكثير من طلبة العلم و ما زال .. و منبعاً جاءت منه علوم ومعارف و مصنفات تلقّتها الأمة بالقبول في كل ربوع العالم الإسلامي.
– لا زالت الدروس في الأزهر تُعقد على الطريقة القديمة، فالمسجد و امتلائه بحِلق العلم .. من إقراء للقرآن و تحفيظ، فضلاً عن دروس كبار المشايخ المنظمة وفق جدول معروف .. و تنوُّع الطلاب و الطالبات الآمّين لهذه الدروس من شتى الجنسيات، و يبدو أنّ معظمهم من دول شرق آسيا و أفريقيا ..جاءوا لهذه العلوم طالبين و متفرغين، فما أحظاهم.
– و قد يسّر الله للعبد الفقير، حضور بعض هذه الدروس مثل درس البلاغة لشيخ البلاغيين مولانا العلامة محمد محمد أبو موسى، و درس شيخ مشايخ الشافعية بمصر مولانا عبد العزيز الشهاوي..و مجلس استماع و قراءة للحِكم العطائية بحضور عدد من مشايخ الأزهر ..و ما كل هذا إلا قبضة من أثر بركة علم و علماء هذا الصرح .. و أيضاً بالقرب من الأزهر أصبنا نفحة من زيارة مسجد و مقام سيدنا أحمد الدردير؛ إمام مالكية عصره و ما تلاه، صاحب الشرح الصغير، أقرب المسالك لمذهب الإمام مالِك .. و هو الذي استقى من تلامذته مالكية السودان المعاصرين قاطبة، و كذلك مسجد سيدنا أحمد ابن عطاء الله السكندري صاحِب الحِكم، و عموماً القاهرة مليئة بآثار العلم و العلماء .. رحمة الله على الجميع.
نسأله سبحانه وتعالى أن يُخمد نيران الخرطوم .. وألّا يجعله آخر عهدنا بالقاهرة.
علي ابو ادريس