يصادف هذا العام (2023) الذكرى الستين لتأسيس العلاقات الدبلوماسية السودانية الجزائرية، تعزّزها عقودٌ ممتدة لعلاقات تاريخية وثقافية وحضارية عميقة وراسخة.
تم تدشين العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في عام 1963م، إذ قدَّم السفير السوداني في القاهرة، السيّد أحمد مختار أحمد مصطفى أوراق اعتماده سفيراً غير مقيم لدى الجزائر. وافتتح السودان أول بعثة دبلوماسية مقيمة له بالجزائر عام 1966م، كثاني دولة عربية تنشئ سفارة لها في الجزائر.
تربط بين البلدين، السودان والجزائر، علائق تجذّرتْ في انتمائهما معاً للدوائر العربية والإفريقية والإسلامية. ولقد توثقت تلك الروابط عبر تواصل بيوتات العلم والشيوخ والسلطنات الإسلامية، والروابط الروحية التي جسّدتها الطرق الصوفية، خلال عقود طويلة من التفاعل والتمازج بين شعبي البلدين.
وإلى ذلك، تظلّ مدينة جزائرية عريقة مثل “تلمسان”، محفورة في وجدان المثقّفين السودانيين، نتيجة ارتباطها الوثيق مع بيوت العلم والسلطنات الإسلامية في السودان، وفي مقدمتها سلطنة الفونج المعروفة ب”السلطنة الزرقاء” وعاصمتها سنار، في أواسط السودان. وقد تعدّدت الأواصر والوشائج عبر حالات عديدة من التصاهر للوافدين والعابرين من حجيج ومن طلاب العلم الجزائريين، ممن استقروا وطاب لهم المقام بالسودان.
ويعدّ السودان أول دولة أفريقية في جنوب الصحراء الكبرى تنال استقلالها، وقد لعب إلى ذلك دوراً هاماً ومؤثرًا في دعم الشعوب الأفريقية الشقيقة التي عانت من ظلم الاستعمار، في سبيل أن تنال حريتها وحقها في تقرير المصير، إذ قدم السند الكبير لحركات التحرّر في شتي بقاع القارة، ومن بينها جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، وذلك من أجل القضاء على الاستعمار البغيض، وإنهاء سياسات الفصل والتمييز العنصري في أنحاء القارة الإفريقية.
ويتزامن الاحتفال بالذكري الستين لإنشاء العلاقات الدبلوماسية السودانية الجزائرية مع احتفالات الجزائر بستينية استقلالها. وقد شكلت انطلاقة الثورة الجزائرية المجيدة في عام 1954، وجدان الشعوب العربية والأفريقية المتعطشة للحرية والانتعاق، كما أنها عززت علاقات التعاون والترابط بين السودان والجزائر، واندفع السودانيون لمؤازرة أشقائهم الثوار الجزائريين.
وزار وفد حركة التحرير الوطني الجزائري السودان في عام 1956 لعرض القضية الجزائرية على الشعب السوداني، كذلك تم فتح مكتب لحركة التحرير الوطني في الخرطوم. وزارت الحكومة المؤقتة التي تم تكوينها في مايو 1959، السودان بوفد قاده رئيس الحكومة المؤقتة السيد فرحات عباس.
وكان السودان قد قدّم الدعم السياسي واللّوجستي لثوّار جبهة التحرير الوطني الجزائرية خلال فترة كفاحهم المسلح ضدّ المستعمِر. وهنا يجدر بنا تذكُّر تضحيات البطل السوداني “إبراهيم النيل” من أجل دعم الثوار، إذ قام بنقل السلاح والعتاد الحربي للثوار الجزائريين من ميناء الإسكندرية عبر البحر، بالإضافة إلى علاقاته القوية مع قادة الثورة الجزائرية، وظل البطل إبراهيم النيل يقوم بنقل السلاح للثوار إلى أن وقع أسيراً في أيدي القوات الفرنسية خلال إحدى الرحلات.
إن دعم ثورة الجزائر وشعبها كانت من أبرز ركائز سياسة السودان الخارجية، ففي 16 يوليو 1958 كان السودان من الدول الأولى التي وقعت على الرسالة التي تضمنت طلب إدراج القضية الجزائرية في جدول أعمال الدورة الثالثة عشر للجمعية العامة للأمم المتحدة. كما عكستها بيانات السودان الرسمية في الأمم المتحدة، لاسيما بيانات مندوب السودان الدائم في الأمم المتحدة، السفير عمر عديل، الذي انتخب رئيسا للجنة السياسية الأولى في عام 1960م، مثلما كان رئيساً لمجموعة المندوبين الدائمين الأفارقة في المنظمة الأممية، إذ جاء في كلمته في ذلك العام ما يلي:
“لقد سُمِّي عام 1960 “عام إفريقيا”، إذ شهد هذا العام نيل ستة عشر بلدا إفريقيًّا كامل الاستقلال والسيادة، ولقد انضموا لعضوية المنظمة الدولية وهنا يطل سؤال: لماذا تُركت الجزائر من دون أن تلحق بهذه البلدان؟ وكيف هي مشاعر أصدقائنا في تركهم إخوانهم الجزائريين يغرقون في دمائهم؟
إني لعلى ثقة أنهم في قلق بالغ، وأفئدة كسيرة، مثلهم مثل إخوانهم في الجزائر. إن الجزائر أمّة عريقة، ذات تاريخ عريق وارث ثقافي باذخ، هي شريك في ثراء إنساني مشترك، لو جاز لي القول، يتمدّد لمساحات شاسعة في أوروبا.
هذا وقد ظلت الجزائر وثورتها وانتصارات شعبها الأبيِّ في المُخيّلة الشعبية السودانية، ومصدر إلهام عميق للشعراء والفنانين السودانيين، إذ لحَّن وتغنَّى بأنشودة “فضة” الشهيدة الجزائرية، الفنان السوداني الكبير الراحل عبد الكريم الكابلي:
“أغلى مِن لؤلؤة بضّة
صِيْدتْ من شطِّ البحرين
لحنٌ يروي مصرعَ فضّة
ذات العينين الطيبتين
كلهاة الطفل بقلب سرير
لم تبلغ سِنْ العشرين
واختارتْ جيش التحرير”…
ومجد الشاعر المرهف/ تاج السر الحسن الثورة والشعب الجزائري في رائعته (آسيا وأفريقيا). كذلك أنشد الشاعر السوداني المعروف/ محمد محمد علي، قصيدته في دعم الثوار:
وأرض الجزائر أرض النضال أحن إلى تربها المختصب
وأرسل روحي إلى الذائدين وأسعى إليهم بعزم يثب
وفي دار يعرب حيث الضراب تموج جحافله في لجب
يثير بنوها حماة الديار أوارا يطاول هام السحب
حياتي فداءً لكل شهيد نما في ثراها وفيه أحتجب
ولئن شكّل استقلال الجزائر كما هو معروف، حدثاً تاريخياً بأبعاده ومغازيه، وامتداد تداعياته أفريقياً وعربيا ودولياً، فقد كان سانحة أخرى لتعزيز وتعميق علاقات بلدينا وشعبينا، إذ تواصل التنسيق بين البلدين ودعمهما لحركات التحرّر الأفريقية وللقضية الفلسطينية، ولتعزيز دور حركة عدم الانحياز والعمل المشترك لتمتين موجبات السلام والأمن إقليميا ودوليا، ومجابهة التحديات والظواهر السلبية العابرة للحدود والتي تهدّد السلام والأمن والاستقرار في كامل الإقليم.
ظللنا في السودان نتابع باهتمامٍ كبير سياسات الجزائر على كافة الأصعدة، فقد ظلت نصيرة ورائدة لتطلعات أفريقيا في الأمن والسلام والاستقرار، كما كانت رائدة كذلك في تعزيز التعاون العربي الإفريقي.
أما العلاقات السودانية الجزائرية، فقد شهدت خلال الستين عاماً المنصرمة حراكاً وتعاوناً أخويّاً صادقاً، عبر آليات التعاون المعروفة والتي جسدتها اللجنة الوزارية المشتركة بين البلدين، ولجنة التشاور السياسي واللجان الفرعية الأخرى، مثل اللجنة الفنية للتعاون في مجال الزراعة والثروة الحيوانية. وتم خلال تلك الفترة المثمرة من العلاقات الوثيقة بين البلدين، تبادل العديد من الزيارات على مستوى رؤساء البلدين وعلى المستوى الوزاري.
هنا، يجدر بنا تذكُّر تضحيات البطل السوداني “إبراهيم النيل” من أجل دعم الثوار، إذ قام بنقل السلاح والعتاد الحربي للثوار الجزائريين من ميناء الإسكندرية عبر البحر، بالإضافة إلى علاقاته القوية مع قادة الثورة الجزائرية، وظل البطل إبراهيم النيل يقوم بنقل السلاح للثوار إلى أن وقع أسيراً في أيدي القوات الفرنسية خلال إحدى الرحلات.
لقد تبادل البلدان الشقيقان السند والدعم المشترك لجهودهما في المحافل الدولية والإقليمية، دفاعاً عن قضاياهما ومصائرهما المشتركة. وهنا نشير إلي التقدم الكبير الذي شهدته علاقات البلدين بانطلاق القمة العربية مطلع نوفمبر 2023، والتي مثَّلت فرصة للقاء رئيسي البلدين وتأكيدهما على ضرورة الرقيّ بالعلاقات الثنائية إلى مستويات أرفع تلبّي طموحات البلدين والشعبين الشقيقين. ونتيجة لذلك، تم تبادل العديد من الزيارات على أعلى المستويات، كما تم عقد اجتماعات ثنائية مهمّة، وتُوّج هذا الحراك في مجال التعاون التجاري بتصدير أول شحنة من اللحوم السودانية ووصولها إلى أرض الجزائر في مارس من هذا العام.
كما شهدت العلاقات الثقافية حراكاً ملحوظاً، إذ شاركت الفرق الشعبية مهرجانات البلدين، ومن اللافت أيضا، التواصل في المجال الرياضي، إذ وفّر فرصاً للشباب وللفرق الرياضية من توثيق الصِّلات في ما بينهما، ولا يزال الأشقاء في الجزائر يتذكرون بكثير من الغبطة والعرفان نيلهم بطاقة التأهل لكأس العالم في عام 2009 من العاصمة القومية أمدرمان.
كما أنّ الجزائر مثّلت محطة مهمة لاستضافة معسكرات التدريب لعددٍ من فرق كرة القدم السودانية المشاركة في المنافسات الإقليمية. هذا بالإضافة إلى المنح الدراسية التي تمنحها الجزائر لطلاب الدراسات العليا السودانيين، وتوفير فرص التدريب في العديد من المجالات الأخرى.
ومن نافلة القول، أن نشير إلى التعاون السياسي بين البلدين، وتطابق رؤاهما حول العديد من قضايا الإقليم الحيوية، وأن السودان يتبع في سياسته الخارجية توجّها خاصاً لتعزيز تواصله مع الأشقاء في كافة منابر وآليات العمل الإقليمي والدولي.
ونحمد للجزائر تفهمها لقضايا السودان، ولطالما عبّر المسئولون فيها عن حرصهم على أن يظل السودان آمنا مستقراً، لما في ذلك من تأثير إيجابي لكافة البلدان التي تجاور كلًّا من السودان والجزائر.
ولا يفوتني هنا أن أزفّ التهنئة باسم بلادي، للجزائر لفوزها المستحق بالعضوية غير الدائمة بمجلس الأمن للفترة 2024-2025، والذي يعكس الثقة الكبيرة التي حظيت بها على مستوى المجتمع الدولي. ولقد تجلّى حرص الجزائر وهي تمثل بلدان وشعوب إقليمها، مناداتها بإصلاح الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، خدمة للأهداف المبتغاة، وتعزيزاً للصوت الأفريقي ولدعم مصالح القارة الأفريقية.
ومما لا شك فيه، أن الجزائر وهي تتبوَّأ هذا المنصب، ستكون عونا للدول الأفريقية، في جهودها لتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية المستدامة لشعوبها.
وإذ يطوي البلدان ستين عاما منذ إنشاء علاقاتهما الدبلوماسية، فإنهما يتطلعان للمزيد من تعزيز علاقات البلدين، عبر آليات التعاون المشتركة، وعلى المستويين الرَّسمي والشعبي، حتى تكون العلاقات السودانية الجزائرية، أنموذجا يحتذى في العالمين العربي والأفريقي.
وختاماً، وفي معرض الاحتفاء بذكرى تدشين تلك العلاقات الأزلية بين الشعبين والدولتين: السودان والجزائر، أود أن أعبَّر شخصياً، وأنا أتشرف بتمثيل بلادي لدى الجزائر، عن أمنياتٍ قلبية صادقة للبلدين الشقيقين، وأن يديم الله عليهما نعمة الاستقرار والتقدم والازدهار. كما لا يفوتني أن أحيّي في هذه الذكري، السّفراء والدبلوماسيين الذين تعاقبوا علي سفارتي البلدين في العاصمتين، الخرطوم والجزائر.
صحيفة الشروق الجزائرية