كانت لبيوت الطين سمعتها الرومانسية ويتعلق بها من عاش فيها ردحاً من الزمن، وفارقها حين انتقل إلى بيوت حضرية مبنية من الأسمنت والخرسانة، سواء أكان في المنطقة ذاتها أو إلى منطقة يغلب عليها البناء المعماري الحديث.
وتعد الأحياء القروية في بعض ولايات السودان مناطق جذب لكثيرين بخاصة في مواسم الأعياد والإجازات، يقصدها سكان المدن الكبيرة الذين يفضلون قضاءها مع عائلاتهم، ولكن ظروف الحرب في السودان فرضت واقعاً آخر وهو أن تكون تلك البيوت هي الملجأ من نار الحرب.
وبالنسبة للبعض كانت هذه هي المرة الأولى التي يشاهد فيها أطفال وشباب فارين مع ذويهم من الحرب، بيوت الطين التقليدية، حيث حكى عديد منهم عن تجربة فريدة، نشروها موثقة بالصور والفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي، أما الصورة الكاملة فهي لأحواش فسيحة تتخللها هذه البيوت التي يحرص بانيها على تخطيط اتجاه أبوابها ونوافذها الضيقة باتجاه الرياح حتى تسمح بتمرير الهواء، وتحيط بها الأشجار وتحوم حولها الحيوانات الأليفة.
لا يقتصر الأمر على الأقاليم البعيدة وحدها، ففي العاصمة الوطنية أم درمان تقف بعض بيوت الطين القديمة التي ارتبط وجودها بأشهر المباني التاريخية في السودان شاخصة، وتسمى تلك المباني “الطوابي” وهي مواقع عسكرية مكونة من 17 طابية بُنيت في أواخر القرن التاسع عشر من الطين كحال المباني والمساكن في ذاك الزمان، في عهد الدولة المهدية ولا تزال صامدة حتى الآن.
ويعود اختيار موقعها إلى أنه عندما جاءت قوات محمد أحمد المهدي من “الجزيرة أبا” التي تقع في المنطقة الغربية من النيل الأبيض، وبدأت حصار الخرطوم في 13 مارس (آذار) 1884 ثم قتلت الحاكم الإنجليزي العام على السودان تشارلز غردون في 26 يناير (كانون الثاني) 1885، رفض المهدي أن يبني عاصمة دولته في الخرطوم لأنه كان يرى أنها عاصمة المحتل واختار أم درمان على الضفة الغربية من النيل، وأطلق عليها اسم “البقعة المباركة”، ومنذ ذلك الوقت باتت العاصمة الوطنية.
و”الطوابي” هي مواقع حصينة استخدمها قناصة جيش زعيم الثورة المهدي لصد الهجمات التي كان يشنها المستعمر الإنجليزي، حيث شُيدت متراصة ومواجهة للنيل على شكل خندق وبها فتحات عليها أبراج عدة استُخدمت للمدفعية، وبحسب ما جاء في مجلة الاتحاد العام للآثاريين العرب “كانت من ضمن الاستعدادات التي قام بها الخليفة عبدالله التعايشي نائب المهدي للدفاع عن مدينة أم درمان مقر حكمه، وأنشأها في مناطق مختلفة في الخرطوم وأم درمان والمناطق المحيطة بهما، وشيدت الطوابي من التراب والطين على أساسات من الأحجار، واتخذت إما شكلاً مستديراً أو مستطيلاً ذو جناحين، وفتحت بها فتحات للمراقبة والمدافع وأخرى للبنادق، ولا يزال العديد منها باقياً”.
وتقع المنطقة ضمن نطاق الحرب التي قال فيها رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في روايته “حرب النهر” التي تحكي قصة هذه المعركة التاريخية “إن النيل له اليد الطولى وأنه سبب الحرب، ومن خلاله نحارب وهو النهاية التي نرغبها”.
يُعرف السودان بأنه أرض الطين، فالتربة السوداء عالية الخصوبة في الزراعة تتكون من مواد تجعلها متماسكة عند خلطها بالماء وتكون صالحة للبناء أيضاً، ويُستخدم مصطلح “الطين” للإشارة إلى “طين التربة”، وهناك العديد من أشكال الطين كمادة للبناء أشهرها طين اللبن، ويتكون من خلط الماء بمزيج من التربة والطمي، وهو المزيج المفضل الذي يستخدم بالضرورة كمواد بناء.
وكمادة للبناء فإن الطين له شكلان رئيسان، الطوب والطين أو الطوب المجفف بالشمس، وهي عملية تقوم بها فرق من العمال برفع الطين من الأرض وضغطها في قوالب مستطيلة الشكل ووضعها في الشمس والهواء حتى تجف.
تتوقف طريقة استخدام الطين كمادة بناء معمارية في السودان مع التأكيد على الحاجة إلى ما إذا كانت هناك أي اختلافات في تقنيات وطرق استخدامه في جميع مراحل البناء من مرحلة إحضار التربة المناسبة التي تستخدم في صناعة الطوب حتى مرحلة رصها معاً وتثبيتها بواسطة الطين أيضاً.
متخصصة الجغرافيا الطبيعية والحيوية هبة الطاهر ذكرت أن “هناك طموحاً لإحياء الطوب اللبن، كون السودان جزء من قارة أفريقيا التي تمثل 4 في المئة فقط من الانبعاثات العالمية، ولكنها تعاني من أسوأ التداعيات المتعلقة بالمناخ، ويمكن أن يكون ذلك أحد الحلول للتغلب على الحرارة كخطة مستقبلية تستمر حتى بعد سد الحاجة إلى السكن البديل في ظروف الحرب التي لا يعلم أحد إلى متى يمكن أن تستمر”.
وأضافت الطاهر “الحقيقة هي أن بناء الإسمنت مرغوب بشدة حتى طغى على بيوت الطين التي تلاشت، ولكن بنزوح سكان الخرطوم إلى الولايات، تمت إعادة اكتشاف هذا النوع من السكن صديق البيئة”.
بسبب الحرب والقصف المتواصل للمباني والأحياء السكنية، يكاد السودانيون قد فقدوا الأمل في إعادة بناء منازلهم في الخرطوم إلا بخطة إعمار طويلة المدى وتتطلب تكاليف مالية باهظة يسهم فيها المجتمع الدولي وأصدقاء السودان، ونظراً لفقدان مصادر دخلهم الرئيسة، مما يصعب معها التفكير ببناء سكن آخر خارج الخرطوم، فإن الحل المقترح في حالة استمرار الحرب واكتظاظ البيوت العائلية أن يتم التوسع أفقياً، ببناء بيوت من الطين للإقامة حتى تنجلي الحرب.
وعدد المؤيدون لهذه الفكرة المزايا العديدة للبناء بالطوب اللبن، حيث يشرح المعماري نزار الشامي “يعد الطين اللبن عازلاً حرارياً إذ يتميز بمحافظته على درجات الحرارة الداخلية ثابتة خلال الصيف والشتاء، وبأنه يتبع طريقة صديقة للبيئة، كما أنه يقاوم الحريق ومقاوم للصوت ويمكن أن يكون خالياً تماماً من المواد الكيماوية”.
وأضاف الشامي “عندما تكون جدران الطين سميكة بدرجة كافية، فإنها تمتص وتخزن الحرارة، والتي تتبدد بعد ذلك مع برودة درجات الحرارة الخارجية في المساء. على النقيض من ذلك، فإن كتل الخرسانة تحتفظ بالحرارة لفترة طويلة وكذلك البرودة”.
ولكن لا تجد فكرة بناء بيوت من الطين بشكل موسع وكبديل للمنازل الإسمنتية قبولاً من قبل عدد من المقاولين لأسباب عددها المقاول عادل جمعة في “النظرة الاجتماعية والجوانب الثقافية التي تصنف بيوت الطين للفقراء فقط، وكذلك بسبب عدم إمكانية التمدد الرأسي في المستقبل، والحاجة إلى العمالة المكثفة والمقاومة الضعيفة للظروف الجوية”.
وأضاف جمعة “حتى مع الحرب وحاجة الناس الذين تدمرت منازلهم إلى سكن سهل ورخيص بعيداً من منطقة الصراع، يواجه هذا المشروع مشكلات تتعلق بأن بيوت الطين تحتاج إلى صيانة دائمة وترميم من الخارج بمواد تدهن على الجدران والسقف، إذ عادة ما يجتهد أصحاب البيوت الطينية في طلائها قبل فصل الأمطار بنوع من التربة اللزجة التي توجد في حواف النيل، ولكن على رغم ذلك لا تستطيع مقاومة الأمطار الغزيرة”.
وأبان مقاول البناء أن “المنازل الطينية التقليدية لا ترقى إلى مستوى معيشي لائق، وتجبر ساكنيها على ظروف معيشية بدائية، كما أنها تشكل خطراً على صحة سكانها على عكس المنازل الحديثة التي توفر للسكان مستوى معيشي أفضل وتصلح كاستثمار جيد للأجيال القادمة”.
ونوه جمعة إلى أنه “يمكن ترشيد تصميم وتقنية المباني وتحسينها ويمكن تقليل تكاليف البناء من خلال طرق بديلة غير اللجوء إلى بيوت الطين”، لافتاً إلى أنه “من الأفضل الاستثمار في هياكل البناء المستدامة المناسبة حتى لو زادت التكاليف، ولأن الإسمنت هو من أغلى مواد البناء فإنه يمكن استبداله بمواد أخرى محلية لتقليل التكاليف الباهظة، إلا أن تنفيذ التغييرات قد يستغرق وقتاً طويلاً”.
قبل اشتعال الحرب في الخرطوم بدأ سكان المعسكرات النازحين من الحرب في دارفور، في بناء بيوت من الطين لتكون بديلاً عن بيوت القش التي شهدت حرائق كثيرة خلال الحرب منذ عام 2003، والتي تجددت خلال الحرب الحالية.
ويقول الباحث في التراث الشعبي المادي عبد الرحمن أبو شامة “هي عبارة عن أكواخ تسمى باللهجة المحلية “قطاطي” ذات أسقف مخروطية، يتم بناؤها من الطين وتدعم بالقش بديلاً للأكواخ، وتتركز المباني في مجمعات دائرية مما يدل على الوضع المادي والاجتماعي والاقتصادي في هذه المناطق، كما يدل على الوحدة والتناغم بين الأعضاء الذين ينتمون إلى قبيلة أو إثنية معينة”. وأضاف أبو شامة “يستخدم صانعو الطوب المنزلي مواد القش لتحسين قوة الشد للطوب اللبن، إذ إنه كان مادة البناء الرئيسة المستخدمة لتعزيز بيوت الطين لأكثر من آلاف السنين”.
وأوضح باحث التراث الشعبي أن “تصميم بيوت الطين التقليدية تتم هندستها على شكل مربع أو دائري مع جدران وسقف متصلين، وأحياناً تكون الجدران مثبتة بأعمدة في المناطق التي تتجمع بها المياه، لكن لأن إقليم دارفور جاف بطبيعته، فإن السكان لا يميلون لهذا النوع”.
وتابع أبو شامة “في هذه البيوت لا تتم إضافة أي غطاء أرضي من أي نوع، حيث يعيش الناس مباشرة على الأرض الطبيعية، ويعملون على تكثيف غطاء جدران البيت الطيني على كلا الجانبين لجعلها كثيفة ومقاومة للطقس والرياح”.
اندبندنت عربية – منى عبدالفتاح