خرج ليجلس أمام المنزل وكنت سألحق به إلا أنه اختفى بعد سماع دوي رصاص عنيف “مفقودو السودان”
بين الشك في أن عبادة قُتل أو ما زال على قيد الحياة، تعيش أسرته في شتات من أمرها. إذا مات فأين جثته وإذا ما زال حيًا فأين هو؟، يردد شقيقه يوميًا تلك الأسئلة دون أن يجد إجابة عليها، فكل ما يريده هو أن يعرف أين شقيقه؟.
عبادة أصبح ضمن عداد المفقودين في السودان، والذين قارب عددهم 300 مدني ثكلتهم أسرهم، منذ أن وقع نزاع مسلح بين القوات المسلحة السودانية التي يقودها عبدالفتاح البرهان وبين قوات الدعم السريع تحت قيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) في 15 أبريل/ نيسان، حيث خرجوا بحثًا عن الطعام أو الشراب أو الدواء وسط تصاعد الاشتباكات ولكنهم فقدوا، فلا هم أحياء وسط ذويهم ولا عُثرَ على جثثهم ليهدأ الشك لأسرهم في أنهم ما زالوا على قيد الحياة.
يُمني عبدالرحمن -شقيق عبادة- نفسه يوميًا بأن عدم العثور على جثمانه يعني أنه ما زال على قيد الحياة: «ربما تم اعتقاله وما زال حيًا، أو ربما تعرض للرصاص في إحدى غارات القصف بعيدًا عن المنزل لذلك لم نعثر على جثته كل ما أتمناه هو العثور عليه حيًا أو ميتًا».
فُقد عبادة وترك خلفه 3 أبناء وزوجة وأم وشقيق وشك يدب في ثنايا الأسرة التي لا تزال تعيش على أمل عودته، فكلما دق الباب تعلقت القلوب والأبصار به في انتظار عودته: «شاهده جيران لنا في منطقة بري فذهبت للبحث عنه أو عن جثته ولم أجده، ليتحول الأمل إلى حسرة». هي ذات الحسرة التي تشعر بها أم فدوى، سيدة سودانية تعيش في أم درمان، فُقد زوجها بعد 15 يومًا من الحرب في السودان، ولم تعثر عليه إلى الآن: «خرج يبتاع بعض الخضراوات إلا أنه لم يعد وكانت آخر مرة شوهد فيها كان في حي العرب».
لدى فدوى طفلة مريضة بضمور في العضلات تبلغ من العمر 13 عامًا، كان والدها يرافقها لثلاثة أيام أسبوعية للحصول على جلسات العلاج الطبيعي التي بدونها تتيبس عضلاتها ولا تستطيع الحركة في مركز علاج طبيعي بالمنطقة نفسها.
منذ اختفاء والد فدوى، وتضطر والدتها حملها على أكتافها وتقطع مسافة طويلة خارج مدينة أم درمان للوصول إلى مركز علاج مازال يعمل، حيث خرجت أغلب مراكز العلاج الطبيعي عن الخدمة نتيجة الحرب، ولا تتلقى فدوى جلساتها بانتظام، وتبحث عن سبيل لإعادة زوجها المفقود.
حاولت والدة فدوى الإبلاغ في مركز شرطة العاصمة وذهبت إليه إلا أنها وجدته خاويًا ولا يوجد به أي من أفراد الشرطة: «أغلب مراكز الشرطة خرجت عن الخدمة نتيجة الحرب لذلك تزايدت حالات الاختفاء والجرائم».
أكثر من 300 حالة مفقود من المدنيين وثقتها مبادرة مجتمعية غير حكومية باسم «مفقود MISSING»، بغرض المساعدة في العثور على مفقودي الحرب في السودان وتوسع رقعة الاشتباكات من الخرطوم إلى ولايات السودان.
وفق مصعب كمال، مسؤول اللجنة التنسيقية لمبادرة مفقود، فإنه منذ اندلاع شرارة الحرب بدأت عملية الحصر وتلقي العديد من البلاغات عبر مجموعة مفقود MISSING من خلال الرقم الخاص باستقبال البلاغات، والتي وصلت في 1 مايو/ أيار إلى 153 مفقودًا من المدنيين، بينما تخطى العدد في يونيو 300 حالة.
يوضح كمال لـ«الدستور» أن المبادرة تؤمن بحق ذوي الضحايا المفقودين من المدنيين معرفة مصير ذويهم سواء ما زالوا على قيد الحياة أو متوفيين، باعتباره حق من حقوق الإنسان الأساسية والتي يجب على أطراف الحرب توفير المعلومات وجمع شمل المفقودين بأسرهم.
يوضح كمال أن المتطوعين الأساسيين في المبادرة لا يتعدوا 10 ولكن هناك تنسيقًا مع لجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني: «عملنا الأساسي كان في ولاية الخرطوم بخصوص مفقودي الحرب، بعدها قمنا بتوسيع دائرة العمل لتشمل المفقودين من جميع أرجاء السودان».
يعيق عمل المبادرة تقييد التحرك داخل العاصمة، وعدم الاستجابة لمناشداتنا للمساعدة في الوصول للمفقودين: «نطالب بتسهيل وصولنا لأماكن الإبلاغ، والالتزام بالهدنة المُعلنة وتوفير ممرات آمنة للعالقين حتى يلتئم شمل الأسر مع المفقودين».
من بين هؤلاء المفقودين بشارة دوسة 13 عامًا ابنة شقيقة سلمان آدم، مواطن سوداني يعيش في حي الوحدة شرق مدرسة الوحدة الثانوية بنين، والتي خرجت في الثامن والعشرين من مايو/ أيار لجلب المياه للأسرة بعدما نفدت جراء النزاع الدائر الذي يمنع الأسرة عن الخروج لفترات طويلة نتيجة القصف.
في مدينة الفاشر فُقدت بشارة ولم يعد لها أثر بعد خروجها في تلك المرة حتى الآن. يقول خالها: «لم نعثر على جثمانها رغم عمليات البحث من قبل الهلال الأحمر، ولم نعلم إذا كانت ما زالت على قيد الحياة، وهو أسوأ ما في الحرب أن تعيش معلقًا بالأمل دون جدوى».
تعاني بشارة من صعوبة في الكلام منذ صغرها رغم جلسات التخاطب التي خضعت لها قبل اندلاع الحرب، لذلك يخشى سلمان ألا تستطيع العودة للمنزل مدى الحياة بسبب ذلك العائق وعدم قدرتها على شرح ما تريده: «يرتاح ذوي الميت بعد العثور على الجثمان لكن ذوي المفقود يعيشون حياتهم على الأمل الكاذب».
وإزاء العدد الكبير لهذه الأسر التي فقدت أبناءها، قرّرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في السودان تخصيص خط هاتفي للإبلاغ عن المفقودين.
تشير إيمان الطرابلسي، المتحدثة الإقليمية للجنة الدولية للصليب الأحمر، إلى أن المفقودين هو ملف شائك يرافق حالات النزاع والعنف والكوارث، إذ إن الحروب عادة تخلف في معظم الحالات أشخاص فقدوا الاتصال مع أسرهم يعتبرون مفقودين.
وتوضح لـ«الدستور» أن السلطات المحلية هي المسؤولة بالأساس عن توفير الأجوبة لأسر المفقودين، مبينة أن الصليب الأحمر لديه تعريف للشخص المفقود بأنه كل شخص لا تعرف عائلته أو أقاربه مكانه ويتم الإبلاغ عن فقدانه استنادًا عن معلومات موثوق منها.
وبحسب مبادرة «مفقود» عاد 70 مفقودًا ووجد 10 جثث بينما مازال 220 آخرين مفقودين، بينما حظت ولاية الخرطوم بأكثر أعداد المفقودين فوصل العدد إلى 105 مفقود. 98% منهم من الذكور بينما نسبة فقد النساء لم تتعد 2%.
وتكشف الطرابلسي أن اللجنة تلقت منذ 22 مايو/ أيار الماضي حتى 28 منه 270 اتصالًا من أشخاص للإبلاغ عن مفقودين، متوقعة تزايد تلك الأعداد نتيجة استمرار عمليات القصف، ووجود تحديات مثل محدودية قدرات السلطات المحلية منها الطب الشرعي في تحديد هوية الجثث لديها ما يعقد ملف المفقودين، وتظل العائلات تحسب ذويها مفقودين وهم أموات.
بينما تقوم اللجنة بأنشطة التعرف على المفقودين من خلال البحث عن أماكن الدفن واستخراج الرفات واستعادة هوية الشخص وتقديم إجابات للعائلات، لكنه عمل شاق الآن بسبب الوضع القائم، وكذلك تقديم الدعم للسلطات المحلية لتعزيز قدراتها في البحث عن المفقودين بحسب إيمان.
فيما ترجع الطرابلسي وجود مفقودين إلى إمكانية وفاتهم دون علم ذويهم فحسبوهم في عداد المفقودين، أو فقدان الاتصال به في حال كان حيًا لذلك العائلة غير قادرة على تحديد أين هو، أو حجزه من قبل أحد طرفي النزاع.
مع إطلاق الرصاصة الأولى للنزاع العسكري في السودان، اضطر ماجد عثمان نمر، مواطن سوداني من حي حلفاية الملوك بالعاصمة الخرطوم، للخروج من منزله لجلب الحليب إلى طفله الرضيع، إذ وضعت زوجته طفلهما الخامس قبل الحرب بيومين فقط.
تقول زوجته سماح سيف: «نفد الحليب لدى ابني ومرت 3 ساعات دون أن يأكل شيئًا، بسبب عدم قدرتنا على الخروج من صوت القصف ومشاهد الدبابات، وظل يصرخ حتى أصر زوجي على الخروج مهما كلفه الأمر ومن يومها ولم يعد إلى الآن».
وتقول أرقام مبادرة «مفقود» أنه على صعيد الأعمار بلغت نسبة المفقودين في الفئة العمرية من 15 – 20 عامًا 7%، بينما الفئة العمرية من 20 إلى 35 هي الأعلى بنسبة 41%، تليها الفئة العمرية من 35 – 50 بنسبة 38%، ثم الفئة العمرية من 50 – 70 عامًا 12%، وآخر فئة عمرية كانت من 70 – 90 بنسبة 2%.
فقدت سماح الاتصال بزوجها بعد 6 ساعات من ذهابه دون رجعة، بسبب انقطاع الاتصالات والإنترنت، ولم تستطع الذهاب خلفه للبحث عنه خوفًا على الرضيع وأبنائها الأربعة الآخرين الذين يحتاجون إلى رعاية كاملة.
قرابة شهرين لا تعلم سماح أين زوجها، وبالكاد ترعى الأطفال الخمسة بمفردها: «ليته ما خرج لجلب الحليب للطفل، لا ذنب لنا فيما يجري من حروب، كل ما أتمناه الآن عودة زوجي ليرعى الأطفال معي، الحمل بات ثقيلًا بمفردي».
كانت المرة الأخيرة التي توقظ فيها تقوى فتير، سودانية تقطن وسط الخرطوم وتحديدًا في منطقة سوبا اللعوته، ابنها أمير البشير 15 عامًا الذي يعاني من إعاقة ذهنية، وخرج بعد 5 أيام من انطلاق الحرب، ليجلس أمام المنزل ولم تمر سوى ثوان حتى فقدت تقوى أثره.
تقول: «لا يستطيع ابني القيام بأي عمل دوني، لأنه لا يستطيع الحديث أو التعبير عما يدور في خلده بسبب إعاقته الذهنية منذ ولادته، خرج ليجلس أمام المنزل وكنت سألحق به إلا أنه اختفى بعد سماع دوي رصاص عنيف على مسافة قريبة من منزلنا»
بحثت تقوى عن نجلها أو ربما جثته ليهدأ بالها في الحالتين إلا أنها لم تعثر عليه: «شاهده جيران لنا في منطقة وسط الولاية ووصفوا لي بأنه كان في حالة يرثى لها من الهذيان ولا يستطيع الكلام أو التعبير، بالتأكيد يعاني الآن أشد معاناة فقد عاش 15 عامًا معتمدًا على وجودي وفجأة فقدني».
“صحيفة الدستور”