لقد كانت الاشعار في منطقة منحنى النيل في القرن الماضي محتشدة بكم كبير من الكلمات ال(راطنة) يصعب فهم معناها حتى لبعض أهل المنطقة، وكنت ممن يحسبها كلمات نوبية، لكنني علمت (يقينا) قبل سنوات بأنها كلمات (مروية كوشية) ورثها أهلنا عن أسلافهم، وكذلك ورثها اخوتنا النوبة في اقصى الشمال، ومنها كل مسميات الزراعة والري، وهناك بحث باسم الاستاذ سامح الشيخ اورد فيه العديد من الأمثلة لأسماء وألفاظ وعبارات مروية كوشية مبثوثة في لهجتنا الحالية، وكلها ارث من اللغة المروية الكوشية التي تحوي 22 حرفا بينما اللغة العربية تحوي28 حرفا، وللعلم فإن اللغة النوبية لغة منطوقة فقط وليست مكتوبة، بينما اللغة المروية الكوشية لغة مكتوبة يجمع العلماء اللغة بأنها أكثر تطورا من اللغة الهيروغلوفية، ولعل ورود هذه الكلمات المروية الكوشية من لغة الأجداد في اللهجة الشايقية ينفي عنها الاتهام بالاستلاب اللغوي، وهو دليل دامغ بأن أهل المنطقة هم أحفاد الكوشيين سبرا لغور ديمغرافيا المكان والسكان، حيث اختلط أهلنا الكوشيون بالعرب المسلمين الذين سمحت لهم اتفاقية البقط التي وقعها ملك دولة المقرة النوبية المسيحية (كالديرات) مع القائد العربي المسلم عبدالله سعد بن أبي السرح بعد فتح مصر على يد عمرو بن العاص، حدث ذلك في عاصمة دولة المقرة النوبية المسيحية (مدينة دنقلا العجوز) في العام 651 بعد الميلاد. ولم يسع جيش المسلمين إلى التقدم جنوبا لأنهم علموا بأن أهل المنطقة من المرويين الكوشيين كانوا على دين آمون رع الموحد لله بخلاف النوبة المسيحيين، ودين آمون يمت إلى اليهودية بالكثير من الوشائج، تدل على ذلك وصية الأمير خوليوت ابن بعانخي التي وجدت على مسلة حجرية في معبد آمون رع في جبل البركل، وترجمها ابن المنطقة البروف عباس سيداحمد عام 2008، وهي تمت بصلة وطيدة بالوصايا العشر الواردة في التوراة، وكذلك هناك تماثيل الثعابين التي تميز آثارهم، ومنها (شريمة) جبل البركل التي نحتت على شكل ثعبان ضخم يقف على ذيله ويرمز إلى عصى موسى عليه السلام التي أحالها الله حية، ولقد حدثت العديد من الحروب من ملوك دولة المقرة النوبية المسيحية ضد من يلونهم من السكان في الجنوب لنشر المسيحية بعد أن جاؤا إلى شمال السودان في القرن الثاني الميلادي ناشرين للمسيحية واسقطوا بقايا الدولة المروية الكوشية في أقصى الشمال لينشئوا دولة المقرة، وقاومهم أهل المنطقة في تخوم دولة المقرة من الجنوب مستعصمين بالتوحيد الذي ورثوه من دين آمون في جبل البركل، ورفضا للصليب والتثليث، وقد تبين ابن ابي السرح من خلال مناديبه الذين أرسلهم إلى قيادات منطقة مروي من الكوشيين استعدادهم للترحيب بالعرب المسلمين لكونهم يشاركونهم توحيد الله، وكانت الكنائس تنتشر في مناطق النوبة في الشمال ومنها كنيسة دنقلا العجوز التي تحولت الى مسجد بعد اسلام أهلها من النوبة، ولم تعهد الكنائس جنوب دولة المقرة في منحنى النيل، ولعلي أذكر ماقاله جدي محمد الحسن حاجنور رحمه الله وهو يتحدث عن سبب تسمية منطقة (الكنيسة) في القرير بهذا الاسم، قال بأنها كانت فيها كنيس يهودي، واعتاد أهل المنطقة بعد اسلامهم واعتمارهم للهجة العربية الجديد (لهجة الشايقية) تصغيرا للاسم مقارنة بحجم الكنيسة المسيحية، ومعلوم أن الكنيس اليهودي أصغر حجما وعلى شكل مستطيل.
لقد سعى العرب المسلمون إلى الدخول من مصر للاستقرار جنوب حدود دولة المقرة النوبية المسيحية، إذ نصت اتفاقية البقط على عدم استقرار العرب المسلمين داخل حدود دولة المقرة، وذلك يفسر السبب في عدم انتشار اللغة العربية في أقاصي الشمال بمناطق النوبة بينما انتشرت جنوبا في وسط السودان، وتحولت لغة أهل مروي إلى العربية بعد دخولهم الاسلام وتصاهرهم مع القادمين من المسلمين العرب، لكن فرضت العديد من الكلمات وألأفاظ والسياقات وأسماء الأصوات والأفعال من لغة الأجداد المروية الكوشية نفسها وتموضعت في اللهجة الجديدة (الشايقية)، منها مسميات الزراعة والري حيث لم يكن العرب المسلمين أهل زراعة وري.
من الأمثلة للقصائد التي احتشدت بالكلمات والألفاظ المروية الكوشية قصيدة ودالدابي الكبير شيخ شعراء المنطقة:
ياقصيبة التقنت الملياني كليق
ماقطع تربالة من سيقانا متيق
قبسة من الخدره ماطلاها كاويق
النداها تملي نازل فوقا زيق زيق
مالوت قندولا دابة عويدا فتيق
وان كرب فيضانا برضو شرابا كريق.
ومنها:
حليل زمن البيوت المو بيوت ضيق
حيشانا المبردحي ماها محيق
لقاديبنا المبلطة خاتي شقيق
مضللة بالفلق ما فيها رقريق
المرق مرقاً سنط ساوينلو أرنيق
راصين القداحي صفوف معاليق
برنداتنا الكراريق بالشباريك
الطير باض وعشعش في السباليق
نحنا سايقين السواقي وعيشنا متيق
لا بسين الشمامير والعراريق
تسمع لا تحت دق المداقيق
يجي احمد للفطور شايلو اباسيق
مالي الشكي وقالع لو أشميق
يفسخ ويمشي مالي جيوبو دفيق.
كل هذه الكلمات الراطنة في شعر لهجة الشايقية ليست نوبية انما مروية كوشية، ولعل هذه الحقيقة غائبة عن العديد منا.
عادل عسوم