السودان وعقبة «الدعم السريع»
رغم التكتم الشديد على المعلومات والتفاصيل، فإن كل المؤشرات تؤكد أن التفاوض قد بدأ من جديد بين الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع» في منبر جدة، تحت رعاية سعودية أميركية. وفيما اختصرت اللقاءات وجولات التفاوض السابقة اهتمامها في وقف إطلاق النار وتسهيل المرور عبر الممرات الآمنة، فإن الجولات الجديدة التي تجرى في جدة، مصحوبة بتعتيم شديد، تستهدف أكثر من هدنة أو اتفاق لوقف إطلاق النار، وتطرح للنقاش كل جوانب الأزمة السودانية وتجاوز مرحلة الحرب.
طافت أطراف النزاع السوداني على المبادرات والوساطات المختلفة، من الاتحاد الأفريقي للإيغاد لمؤتمر جوار السودان، ثم عادت وألقت رحالها على شاطئ جدة لاستئناف جولات التفاوض التي توقفت مع عطلة العيد. وبدا أن منبر جدة أقرب لنيل ثقة الطرفين، إلى جانب أنه منبر مفتوح من دون اشتراطات وتوصيات سابقة وجاهزة.
يحاول الوسطاء أن يحصلوا في الجولة الأولى على اتفاق ملزم وطويل الأمد لوقف إطلاق النار والفصل بين القوات، لينتقلوا بعد ذلك لمناقشة الملفات الأكثر تعقيداً وصعوبة، ومن ذلك كيفية تمثيل المدنيين في التفاوض، وما معايير الاختيار، وموقع المكون العسكري بجناحيه من أي تسوية سياسية مقبلة، ومستقبل قوات «الدعم السريع»… إلخ.
كل نقطة من النقاط السابقة لديها نقاط فرعية وجوانب خفية ستظهر أثناء التفاوض عليها، وتعقيدات كثيرة تحيط بها، وتجعل عملية التفاوض مسألة في غاية الصعوبة والتعقيد، خاصة ما يتعلق بمستقبل «الدعم السريع».
الموقف العام للقوى السياسية والمدنية تطور من قبول شراكة عسكرية مدنية في اتفاق أغسطس (آب) 2019، تضمنت وجود الفريق حميدتي في مجلس السيادة، لشعار العسكر للثكنات والجنجويد ينحل «المقصود حل قوات الدعم السريع»، وهو شعار قديم تبلور بشكل حاسم بعد انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، ويتبنى مدنية الدولة وعودة القوات المسلحة لأداء دورها الوطني المعروف. وقد انعكس ذلك بدرجة ما في الاتفاق الإطاري الموقع في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) 2022، حيث تم الاتفاق على تشكيل مجلس سيادة مدني «مجلس رئاسي» وحكومة مدنية كاملة بصلاحيات كبيرة لرئيس الوزراء، كما تحدث عن قوات مسلحة موحدة تدمج فيها الحركات المسلحة و«الدعم السريع»، وتم ترك التفاصيل لورشة لاحقة تناقش الإصلاح الأمني والعسكري، وطريقة دمج «الدعم السريع» في القوات المسلحة.
طوال هذه الفترة لم تناقش الأجهزة الأمنية والعسكرية أي تصور حول مستقبل «الدعم السريع»، رغم أنه كان مطلباً ملحاً لصغار الضباط والجنود، وعندما قدم الجيش السوداني تصوراته حول دوره في المرحلة التي تلي تطبيق الاتفاق الإطاري اقترح تكوين هيئة قيادة من ستة أشخاص، أربعة من القوات المسلحة، واثنان من «الدعم السريع»، من دون أي إشارة لمستقبل «الدعم السريع».
عندما وصلت مراحل الاتفاق إلى نهاياتها بورشة الإصلاح الأمني والعسكري، كانت العلاقات بين الجنرالين البرهان وحميدتي في أسوأ مراحلها، وانعكس ذلك على مجريات الورشة، والتي أقرت مبدأ الدمج، ثم اقترحت لجنة فنية من الجانبين والقوى الموقعة لمناقشة التفاصيل ووضع الجدول الزمني للدمج. هنا وصل الخلاف مداه الأعلى، فانسحب ممثلو القوات المسلحة في اليوم الأخير للورشة، وبالتالي تعطل اعتماد ونشر توصياتها، وبدأت عمليات التعبئة والتجييش كمقدمة للحرب.
الشعور العام السائد بين كل الاتجاهات، التي خاضت الحرب وأيدتها، أو القوى التي رفعت شعار «لا للحرب»، هو أنه لا يمكن قبول مشاركة «الدعم السريع» سياسياً في المرحلة المقبلة، وإن كانت هناك قوى تطرح هذا الخيار قبل بدء الحرب، فإن بقية القوى الاجتماعية والمدنية تبنت هذا الرأي بعد الانتهاكات الواسعة والممارسات سيئة السمعة التي ارتكبتها قوات «الدعم السريع»، من احتلال المنازل وممارسة السلب والنهب لممتلكات المواطنين وسياراتهم والقتل خارج القانون.
لقد بدا واضحاً أن قوات «الدعم السريع» لا تملك مشروعاً سياسياً وطنياً، وما يقوله قائد «الدعم السريع» في رسائله الصوتية، وتصريحات مستشاريه في الفضائيات، لم تستطع أن تقنع الرأي العام الذي يقارن الحديث والتصريحات بواقع الممارسات على الأرض.
لكن السؤال المهم هو: كيف يمكن فرض هذا الرأي من دون نصر حاسم على قوات «الدعم السريع»؟ إذ لا يمكن لطرف أن يملي شروطه على الطرف الآخر، إلا في حالة النصر واستسلام الطرف المهزوم.
الاحتمال الأقرب هو أن يكون هذا التصور جامعاً ومانعاً، يشمل «الدعم السريع» والقوات المسلحة، بحيث تعود لممارسة دورها المهني مع استبعاد الطاقم القيادي الحالي واستبدال طاقم من العسكريين المحترفين به، وحصر التفاوض بينهما حول الدمج والشروط الفنية والزمنية المناسبة لذلك، وترك تفاصيل التعديلات الدستورية وتشكيل الحكومة للقوى المدنية الموسعة. غير ذلك ستكون هناك تعقيدات وعقبات كثيرة يصعب تجاوزها في ميدان التفاوض مثلما لم يمكن تجاوزها بالحرب.
فيصل محمد صالح
وزير الإعلام السوداني السابق
—-
الشرق الاوسط