ياسر محجوب: تركيا.. تحالف إستراتيجي مطلوب

ربما كانت المنطقة العربية في ظل الاستقطاب العالمي الحاد وتحت ضغط التطورات العالمية المتسارعة وحافة حرب عالمية ثالثة، أحوج ما تكون إلى تمحور إقليمي جديد بدخول ظهير إقليمي قوي تشدد به الأمة أزرها وتشركه في أمرها، فينتج عن ذلك كيان قوي عريض ممتد، يتخطى حدود التكتيكات السياسية العابرة التي لا تقوى على دعم الأهداف الإستراتيجية كذلك كيان لا تكبله الأيديولوجيا المُقعدة. وقد تعم فوائد هذا الكيان هذا العالم الذي يغلي كالمرجل، فيحدث فيه توازنا مفقودا ويسهم في الاستقرار وينقذه من حافة الهاوية.

عندما أمر فرعون مصر أن يُذبح المواليد الذكور من أطفال بني إسرائيل سنة ويتركوا سنة، ولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها، وموسى في السنة المقرر فيها الذبح وقد نجاهما الله بقدرته وحكمته، وتربى موسى في قصر فرعون بينما تربى هارون في أسرته. وهارون أخو موسى ورفيقه في دعوة فرعون إلى الإيمان بالله لأنه كان فصيحاً ومتحدثاً، ولا يذكر الكثير عن سيرته، إلا أن المعلوم أن الله أيد به أخاه في دعوته لأنه كان أفصح لساناً. وجعل الله قصتهما قرآنا يتلى: ( قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري).

لقد شهد الأسبوع الماضي جولة مهمة للرئيس التركي رجب طيب أردوعان في دول الخليج العربية استأثرت باهتمام إعلامي كبير وشملت 3 دول خليجية هي، المملكة العربية السعودية ودولة قطر والإمارات العربية المتحدة؛ وبدا من طبيعة الوفد المرافق للرئيس التركي أن الجولة تركز على الاستثمار والتجارة بغرض الحصول على المزيد من الاستثمارات الخليجية وتعزيز الصادرات التركية للخليج.

وتقول وكالة رويترز عن مسؤولين أتراك إن أنقرة تهدف إلى جذب استثمارات خليجية مباشرة بقيمة 10 مليارات دولار خلال هذه الجولة بما في ذلك استثمارات تتراوح ما بين 25 مليار دولار و30 مليار دولار إجمالا على المدى البعيد.

ولعل تركيا بالإضافة إلى ذلك تنظر إلى ما أبعد من الفوائد الاقتصادية، فهي تعلم أن المنطقة العربية مجتمع غني بتأثيرات عديدة، ومختلفة، تقطنها عدة جماعات مختلفة الأعراق، واللغات، والأعراف. ويمثّل الإسلام المعتدل واللغة العربية الظاهرتين، الثقافيتين، السائدتين فيها.

والشعوب العربية تعيش على مساحة واسعة، ويستمتعون بروابط تاريخية، وتقليدية موحدة، وبالرغم من أنهم ينتشرون في بضع وعشرين قُطراً مختلفاً، لكنهم جزء من أمةٍ واحدةٍ. وتركيا من جانبها ماضية في سعيها من أجل الاندماج الإقليمي، على شكل تعاون أمني واقتصادي يجعلها واحدة من أهم عشرة اقتصادات في العالم، فكل ذلك يفضي بها لأداء دور مؤثر في حلّ الصراعات الإقليمية.

وفي ذات الوقت فإن (الشرق الأوسط الجديد) مشروع أمريكي، يخدم إسرائيل، وليس خافيا أن الولايات المتحدة الأمريكية ترى من الناحية الإستراتيجية في إسرائيل الوريث “الشرعي” لعرش الشرق الأوسط أو العالم العربي. وهذا أمر يصطدم بالضرورة بالأمن الإستراتيجي لكل من الأمتين العربية والتركية على حد سواء. ويشكّل العالم العربي إحدى المرايا العاكسة لعلاقات القوى والمتغيرات الهيكلية في النظام العالمي ككل، بالإضافة إلى أنه يمثل واحدا من أهم المتغيرات فيه والتي لعبت أدوارا في تغييره ودفعه نحو آفاق جديدة. ومما لا شك فيه أن هناك مسؤولية عربية مباشرة وكبيرة في كلّ ما يحدث من تداعيات خطيرة حبلى بالمؤشرات التي تصبّ في عملية إعادة تشكيل هذه المنطقة المهمة بيد أن غالب الدول العربية تقف وقفة الصامت المتفرّج العاجز.

وفي سبيل تحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد المصمم لخدمة إسرائيل تنتهج واشنطن رؤية تقوم على مواجهة الإسلام الوسطي الغالب بالأقليات المذهبية التي يؤخر ضربها لوقت لاحق. وفي ذات الوقت إبعاد تركيا وإشغالها وتحييدها في أحسن الأحوال، إذ تكمن خطورتها على هذا المشروع الأمريكي في أنها لا تعتمد أيدلوجية مذهبية متطرفة وإنما تبدو دولة إسلامية وسطية ولا تستند إلى تعاليم وفتاوى وفقه يعتمد على روايات تاريخية مبتدعة تقسم المقسم وتثير الفتن المجتمعية.

وفي التاريخ القريب أدى الدعم الأمريكي للمليشيات المذهبية في المنطقة إلى ظهور نسخة مطورة من تنظيم القاعدة ممثلة في تنظيم الدولة الإسلامية وهو التنظيم الذي يظهر صورة الإسلام التي يريدها الغرب الأمر الذي يوفر مسوغات ومبررات أخلاقية لضربه. وقد رفضت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما لأي شراكة حقيقية مع من يمثلون الإسلام الوسطي لطرد تنظيم الدولة. في المقابل سعت تركيا في الملف السوري – على سبيل المثال – للتعاون مع قوى الثورة المعتدلة للإطاحة بتنظيم الدولة الإسلامية وترويض النظام في دمشق في ذات الوقت. وقد احتضنت أنقرة السوريين الفارين من رصاص وبراميل وصواريخ نظام سوريا، ووفقا لأرقام الأمم المتحدة، هناك 1.8 مليون لاجئ سوري، بل منحت أنقرة المواطن السوري حق البقاء والدخول إلى تركيا حتى بدون وثائق رسمية أو منتهية الصلاحية. أما رؤيتها المتعلقة بالعراق فإنها تقوم على إعادة التوزان بين مكونات الدولة وضمان حقوق كل منها ضمن دولة عراقية موحدة.

وبما أن الظروف الموضوعية للحالة العربية المأزومة لا تسعف دول المنطقة لمدافعة ندية قوية ضد المتربصين بالمنطقة؛ فإن المخرج والحل يقتضي اتفاقا عربيا حول إستراتيجية للتعاون مع تركيا، لاسيما أن تركيا تحمل مشروعا إستراتيجيا يعتبر العرب شركاء في المنطقة لا خصوما، ويمكن أن يؤسس التاريخ المشترك لمستقبل تعاون قد يرقى لمستوى تجربة أفضل من تجربة الاتحاد الأوروبي.

د. ياسر محجوب الحسين

Exit mobile version