بابكر إسماعيل: بلٌّ .. وجغمٌ
قبل تظاهرات ديسمبر ٢٠١٨ لم يكن مصطلح البلّ معروفاً لدي السودانيين بمعناه الحالي وكانت كلمة “بلّ” تستخدم بصورة أساسية في غسيل الملابس كما أنّ هنالك بعض الأسماء السودانية الأصيلة والتي تشترك مع كلمة “بلّ” في نفس جذر الحروف مثل:
بلّة وبلولة وبليل وبلايل وبلّال ..
وفي ديسمبر من العام ٢٠١٨ أدخل الشباب الثائرون بعض الكلمات المستجلبة من لغة الراندوك (لغة الشماسة والمشردين) في القاموس السياسي ولم يكن ذلك من باب المصادفة بل كان هنالك عقل مركزي يدير تلك المظاهرات ويريدها أن تكون لها أدبيات خاصة تخالف بها خطاب عموم أهل السودان ومنها استخدام ألفاظ مثل البلّ.
مصطلح البلّ يبدو لي أنه يعني إلحاق الضرر بفعل فاعل ومنه أعمال العنف التي صاحبت تلك الاحتجاجات واستخدم المصطلح أيضاً في وصف مصادرات ممتلكات منسوبي نظام المؤتمر الوطني بواسطة لجنة تفكيك التمكين “المنحلة” وشمل ذلك أيضاُ فصل الموظفين من وظائفهم ومضايقتهم وحبسهم في السجون لمدد طويلة بدون محاكمات الخ ..
ومن المصطلحات التي سادت في خلال وبعد سقوط نظام الإنقاذ:
مصطلح الكجر.. ويعني رجال الشرطة
وكبّرا: ويعني الهروب
والكنتة: هذه تعني الحجة أو خلاصة الفكرة
والردم: وهذا يستخدم في وسائل التواصل الاجتماعي عندما يعترض المتداخلون علي آراء اللايفاتي أو المغرّد ويهاجمون شخصه أو تياره السياسي عبر التداخل المتاح في مثل هذه الوسائط ..
وهذه المصطلحات كما أسلفت جاءتنا من لغة الشوارع ..أو الراندوك
ومع غزو الجنجويد للخرطوم ظهر مصطلح الجغم ويبدو أن هذا المصطلح راندوكي خاص بالجيش ومعلوم أن الجياشة لديهم مصطلحاتهم التي يترنمون بها في جلالاتهم ومعظمها يأتي من ثقافات سودانية متنوعة فعند الجيش يسمون المدنيين ملكية وتستخدم في باب الذمّ خاصة عند وصف فعل غير مقبول من جياشي ومن مصطلحاتهم “الكُهنة” بضم الكاف وهي قطعة قماش ينظفون بها الحذاء العسكري أو البوت وهي أيضاً تستخدم في ذمّ الرجل التافه ..
ويصفون الكيد والمكر لبعضهم البعض بالوكادة وهي من اللفظة الإنجليزية wickedness ..
أما الجغم فأصله في العامية السوداني الشراب جرعة فجرعة ، وفي دارجة وسط السودان تسمّي الجُغمة بُقّةً ..
والجَغمة بفتح الجيم في الشراب كالقَرمة للرغيف وما شابهه ..
وقد جاء تعبير شبيه للجَغمة في سياق قرآني يتحدث فيه المولي عزّ وجلّ عن جيش طالوت في سورة البقرة حيث منع طالوت جيشه من الشرب من نهر عبروه وسمح فقط لمن اغترف غُرفة بيده ولا يفوتك التطابق في الوزن بين غُرفة بالضمّ وجُغمة بالضمّ وقد وردت عند بعض رواة القرآن منهم ورش وقالون بالفتح – غَرفة – وهي أيضاً تماثل جَغمة ..
وإذا سبرنا غور هذا الاستخدام الاصطلاحي لكلمة الجَغم في لغة الجيّاشة فهو يعني القتل الهاديء ويكون في المعارك والعمليات الخاصة سيّان وهو قتل بدون صوت وبسهولة كشرب الماء .. فالشيء السهل عند السودانيين يشبهونه بالموية – علماً بأنه عند غيرهم يحترب الناس من أجل الماء والكلأ كالجنجويد في دارفور وغيرها ..
وحروب المياه معروفة في كلّ العالم.
واخترنا توصيف الجغمة بأنها شراب بدون صوت لأن الشراب بالصوت عند السودانيين يسمّي بالقرطعة..
ولكني لاحظت أن الجيّاشة يستخدمون مصطلح الجغم حتي في حالة تدمير الأرتال العسكرية وأظنّ أنّ ذلك توسع منهم في الأمر فالأولي وصف تدمير المتحركات والأرتال العسكرية بالقرطعة أو الهبت أو الردم الخ ..
استغرق التاريخ السياسي السوداني أربع سنوات للانتقال من مرحلة البلّ إلي مرحلة الجغم ..
وهذا الانتقال ليس انتقالاً من لفظة إلي لفظة بل انتقال السودان بكامله من مرحلة سياسية اتسمت بالبلّ وتعبّر عن حقبة قحت إلي مرحلة سياسية أخري وُسِمت بالجغم وتعني في خلاصاتها عودة الحكم العسكري كخيار ارتضاه الشعب السوداني ..
ولا يفوتنا أن نذكر أن هنالك محاولات يائسة من البلابلة (وهم طوائف قحت الثلاثة وهم السنابل والبرماويين – جماعة برمة ناصر – والسيداويين ورابعهم عرمان) للعودة إلي العهد البَلّي .. ومنع الانحدار نحو الجغمية..
ولقد رأينا زيارة وفدهم الأخيرة إلي يوغندا ومقابلة الرئيس يوري موسيفيني وهو معروف بأنه بلّال وجاغم لأي معارض لحكمه وفوق ذلك فهو ملاكم.
فهل يفلح البلابلة في العودة لبلّ الشعب السوداني مرة أخري منفردين أو بالاندغام مع العساكر الجغميين لتكوين مرحلة بلجغية هجين ..
أشكّ في ذلك …
بابكر إسماعيل