الأسوأ قد حدث بالفعل في السودان منذ أن بدأت مليشيا الدعم السريع في مهاجمة المواطنين ونهبهم وإذلالهم وقتلهم وهي ما تزال مستمرة في ذلك. ما حدث للمواطنين في الخرطوم بالذات ليس و نتيجة العرضية للحرب ولكنها ممارسات متعمدة لمليشيا الدعم السريع ضد المواطنين مع سبق الإصرار، وهو ليس بجديد ولا مستغرب؛ فهذه هي ممارسات المليشيا ومجموعات الجنجويد المساندة لها في الجنينة وفي غيرها من مناطق دارفور.
التهديد بأن مواجهة المليشيا تعني الحرب الأهلية مجرد ابتزاز فقد معناه. ماذا يعني التخويف بالحرب الأهلية لمواطن فقد بيته أو ماله أو هُتك عرضه بواسطة الدعم السريع؟ وأيضاً ما الذي يعنيه تخويف مواطن يشعر سلفا الخوف من مجرد فكرة سيطرة الدعم السريع على حيه او مدينته بالحرب الأهلية؟
في الواقع إن مجرد فكرة سيطرة المليشيا على أي مدينة أو حي في السودان هي فكرة مرعبة للمواطنين وتستدعي حمل السلاح؛ فالمليشيا هي نقيض الدولة والقانون والقيم والأعراف؛ لا أحد يأمن على نفسه ولا ماله وعرضه في وجودها وغياب الدولة. ولذلك فإن الدافع للوقوف مع الجيش كمؤسسة وطنية دعما ومساندة أو الانخراط للقتال في صفوفه ليس ترفاً فكريا ولا هو انحياز ضد الدعم السريع بقدر ما هو تصرف تلقائي وغريزي لمواطن يشعر بتهديد حياته وكيان دولته من قبل مليشيا لا يهم إن كان اسمها الدعم السريع أو أي اسم آخر.
فهذه مليشيا تحارب الشعب السوداني قبل الجيش؛ وإعلان قادة بعض القبائل في ولاية جنوب دارفور (وهي ولاية واحدة ضمن 18 ولاية) لن يغير من هذه الحقيقة. ومن يصطلف مع المليشيا فقد اختار مواجهة جموع الشعب السوداني من بورتسودان إلى الجنينة. ولا يُمكن أن تضع الناس هكذا بين خيارين القبول بمليشيا الدعم السريع بجرائمها أو الحرب الأهلية. هل الحرب الأهلية أسوأ من مليشيا الدعم السريع أصلاً؟
ثم إذا فسرنا حرب الدعم السريع في الخرطوم بأنها حرب مطالب اجتماعية على الرغم من أن تركيب عبارة “مطالب اجتماعية” فوق ممارسات التدمير والنهب والاغتصاب والقتل الذي تمارسه المليشيا هو أمر مثير للتقزز والقرف؛ ولكن إذا سلمنا بذلك، فكيف يُمكننا تفسير الحرب التي دارت في الجنينة والتي ترقى إلى وصف الإبادة الجماعية؟ وأيضاً كيف يُمكننا تفسير التطاحن القبلي في دارفور والذي كانت المليشيا على الدوام متورطة فيه بشكل مباشر أو غير مباشر؟
وعليه، فإذا كان هناك سياق لحرب المليشيا في الخرطوم فهو ليس سياق العدالة والديمقراطية وإنما هو نفس سياق الحروب التي شهدتها دارفور طوال الفترة الماضية، الحروب القبيلة؛ والمليشيا الآن تقاتل بوضوح شديد كقبائل؛ لا كمؤسسة دولة منشقة أو متمردة. لأنها لو كانت مجرد انشقاق أو تمرد في الجيش الوطني لكانت تعاملت مع المواطنين بمسئولية، كناس هي مسئولة عن أمنهم وسلامتهم لا كأعداء وكأهداف للنهب والتهجير والقتل والاغتصاب.
ولذلك، لا يُمكن بأي حال من الأحوال المساواة أو المقابلة بين الجيش السوداني والمليشيا؛ فما تقوم به المليشيا ليس سوى تخريب للدولة؛ وهي نهبت البنوك ودمرت المؤسسات قبل أن تعتدي على المواطن. حقيقة، لم تقم المليشيا بأي شيء يؤهلها لكي تكون نداً للجيش بأي شكل. فالجيش رغم كل شيء يستمد شرعيته اليوم من كونه الجهة التي يطمن في لها المواطن ويشعر بأنها تحرسه وتوفر له الحماية بما في ذلك الحماية من الدعم السريع.
إن البيوت والمؤسسات والأسواق التي نُهبت ودمرت بواسطة الدعم السريع في الخرطوم وفي دارفور هي أملاك كل السودانيين بمختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم، ولن يكون استهدافها إلا عداوانا على الشعب السوداني. المليشيا استهدفت الأسواق في دارفور في الجنينة وفي نيالا والفاشر وزالنجي وغيرها، ولا يُمكن تفسير كل ذلك بأنه حرب ضد “المركز المستبد الظالم”،
هذه حرب مليشيا مجرمة ضد المواطن وضد الوطن نفسه. صحيح تم صدها في بعض المناطق ولم تتمكن من الوصول إلى الأسواق، ولكنها نهبت بما فيه الكفاية لفضح أي ادعاء بأنها تقاتل من أجل المهمشين والمسحوقين؛ فهي نهبت الجميع في الخرطوم بدون فرز وفي دارفور وكردفان واعتدت وتعتدي على كل ما يقع تحت سيطرتها. هذه هي مشكلة المليشيا.
فمليشيا الدعم السريع غير مؤهلة سياسيا وأخلاقيا لتمثيل أي مطالب اجتماعية، وهي تحاول استغلال خطاب التهميش بنفس الانتهازية التي تستغل بها خطاب ثورة ديسمبر.
فقد ظلت حركات الهامش تقاتل لسنوات كما ظلت الأحزاب والتنظيمات المدنية تصارع وتناضل من أجل قضايا العدالة والديمقراطية بينما كان الدعم السريع أداة من أدوات نظام عمر البشير يستخدمها في الحرب في دارفور. وبعد الثورة تحول الدعم السريع إلى إقطاعية خاصة بآل دقلو، بحميدتي شخصيا، وظل حتى 15 أبريل يمثل نفسه متحالفا مع مجموعة أحزاب تريد اختطاف الإرادة الوطنية باسم الثورة والمدنية واندلعت الحرب نتيجة لفشل الإطار السياسي الذي كان يُراد فرضه بواسطة الدعم السريع وحلفاءه، وذلك الإطار لم يكن لا إطارا ديمقراطيا ولا عادلاً، كان يقوم على الإقصاء الفج بدواعي رفض “إغراق العملية السياسية” وإبعاد “الفلول”.
تحقيق العدالة الاجتماعية و الديمقراطية لن يكون إلا من خلال حوار وتوافق وطني شامل ونحن مع ذلك؛ ولكن هذا الامر عمليا غير ممكن قبل هزيمة تمرد المليشيا. فالمليشيا المتمردة عبارة عن مشكلة عسكرية وأمنية؛ ليست سياسية ولا اجتماعية. تستسلم المليشيا وتوقف حربها ضد الجيش والشعب السوداني أو تُهزم، ومن ثم ينفتح المجال السياسي لوفاق وطني حقيقي بدون إملاء من بندقية لا من مؤسسة الجيش ولا المليشيات؛ هذا هو الحل.
حليم عباس