زهير عبد الفتاح: بيد أن الفئران لا تخون

ظلت قحت منذ مراحل التخلق الأولى في حواضن قوش، مرورا بمراحل التقافز فوق ظهور الأحصنة الديسمبرية المختلفة، انتهاء بنسختها الجنجوقحطية الصريحة، كائنا طفيليا بامتياز؛ لم تتهيأ أمشاجها في الأساس للعمل والإنتاج، وتشكل بموجب ذلك عمودها الفقري الرخو وجسدها الهلامي المائع وعقلها الضبابي المحدود واللامُحدَّد.

هذه المجموعة السياسية – وكعادتها الأصيلة – لم تبذل أدنى مجهود منذ بداية معارك الجيش السوداني مع متمردي الجنجويد، في بيان الكيفية العملية لتطبيق شعارها المركزي المتمثل في عبارة (لا للحرب) التي أصبحت وردا يوميا يتم تنزيله بين يدي أي قول وعلى أي مستوى بصورة ميكانيكية أقرب ل(ترجمة الدراويش)، بحيث يمكن فعلا أن تتوقف الحرب.

هذه المسألة لا تستدعي إلى الذاكرة سوى القصة التي أوردها عالم الاجتماع والمفكر العراقي علي الوردي في كتابه (مهزلة العقل البشري) والتي تحكي أنَّ جَمَاعة مِن الفِئرَان، اجتَمعُوا ذَات يَوم، ليُفكِّروا فِي طَريقة تُنجيهم مِن خَطَر القِطِّ، وبَعد جَدَلٍ عَنيف، قَام ذَلك الفَأر المُحتَرَم، فاقتَرَح عَليهم أَنْ يَضعوا جَرسًا رَنَّانًا فِي عُنق القِطّ، حَتَّى إذَا دَاهمهم؛ سَمعوا بِهِ قَبل فَوَات الأَوَان، وفَرّوا مِن وَجهه. إنَّه اقترَاحٌ رَائِع لَا رَيب فِي ذَلك، ولَكن المُشكِلَة الكُبرَى؛ كَامِنَة فِي كَيفية تَعليق الجَرَس عَلَى عُنق القِطّ، فمَن هو ذَلك العَنتَري الذي يَستَطيع أَنْ يَمسك بعُنق القِطِّ، ويَشدّ عَليه خيط الجَرَس، ثُمَّ يَرجع إلَى قَومهِ سَالِمًا غَانِمًا؟.. برغم أن هذا الفأر المحترم يتفوق كثيرا على الباشمهندس خالد سلك – مثلا – في أنه تجاوز مرحلة الشعار المجرد إلى المقترح المحدد وإن لم يكن قابلا للتطبيق، إلا أنه يمكن أن يفتح الباب لاقتراح ودراسة البدائل بصورة عملية.

عجز قحت وضمورها العضلي المفضي إلى اللافعل، والعقلي المنتهي باللاتصور أصبح مما لا يحتاج بيانا، بل أضحى مسلمة يقررها أو يقر بها الجميع من لدن حمدوك وفولكر إلى الدقير والبرير. ولكن قد يجادل مجادل أن شعار ( لا للحرب) وإن كان هلامياً ولا يمكن تفعيله في أرض الواقع بأي درجة، إلا أنه يبقى ذا فائدة في الإبقاء على المعركة الرئيسة مع الكيزان مستمرة ومتقدة الجذوة ، لأنه ينطوي – أي الشعار – على كل أنواع التجريم الظاهر والمبطن لهم بأنهم مؤيدون لهذه الحرب، بل أنهم من أشعل أوارها لأنها تعود عليهم بالنفع. ومثل هذا القول لا يفعل شيئاً سوى أنه ينقل الاتهام لقحت من مجرد العجز العملي والتصوري إلى مستوى آخر وهو فقدان الحد الأدنى من الذكاء والقدرة الغريزية على إدراك الحقائق المجردة المباشرة؛ فكيف يحاول عاقل أن يقنع بمثل هذا المنطق شعباً يتعرض لأبشع أنواع الانتهاكات الإنسانية في زمن الحروب من قتل وسلب وتشريد وترويع واغتصاب على يد الطرف الذي تحاول تصويره على أنه الحمل الوديع الذي يقوم مقام الضحية، وحمامة السلام التي يحاول الكيزان رميها ببندقية الجيش وهي تحمل غصن السلام والمحبة والديمقراطية، وأن المقصود المستهدف بكل ما يصدر من هذا (الطرف) ليس هو الشعب وإنما هم الكيزان.

هذا بغض الطرف عن أسئلة أخرى كثيرة تجري على لسان رجل الشارع العادي مثل: إذا كان الجيش جيش الكيزان فلماذا لم يقاتل غداة الحادي عشر من أبريل ٢٠١٩ وملك الكيزان يسلب ونظامهم يقتلع، والدعم السريع وقتها لم يكن يبلغ من القوة والعدد والعتاد خمس ما هو عليه اليوم من الناحية العسكرية، ولا شئ تقريبا في الميزان السياسي؟ وأسئلة أخرى كثيرة على هذه الشاكلة.

الشئ الوحيد الذي يمكن أن ينفي عن قحت تهمة الغباء الشنيع هو أن تكون قد قررت ممارسة (الاستعباط) الواعي، أو العمل بالنصيحة السودانية (اعمل فيها رايح) على طريقة الفنان المصري شعبان عبد الرحيم الشهير ب(شعبولا) التي بلغت ذروتها في برنامج (من يربح المليون) ؛ حيث أشار أحد علماء النفس إلى أننا نضحك ونظن بالرجل العبط وجورج قرداحي يقوم بمجاراته بصورة مكشوفة، ويقدم له المساعدات ذات الطابع الطفولي،ويعطيه الجوائز والحوافز على إجابات تستحق الصفع والركل، وينقله إلى المستوى الأعلى بدلا عن رميه خارج الاستوديو كما يقتضي المنطق، ولكن في الواقع فإن الرجل – والقول لا زال لعالم النفس – يدرك جيدا أن دور (العبيط) هذا هو الذي يجعله يربح بسهولة ويتفادى كثيرا من أشكال المسئولية خارج قوانين المنافسة الجادة مع شعب يحب المستعبطين.

زهير عبد الفتاح

Exit mobile version