عمرو صالح: وتلك الأيام نداولها بين الناس.. ديسمبر وحرب إبريل كنهاية عصر وبداية عصر

وتلك الأيام نداولها بين الناس: ديسمبر وحرب إبريل كنهاية عصر وبداية عصر: التوافق الوطني التأسيسي كمخرج من المأزق التاريخي للدولة السودانية
أحد الأصدقاء كان بيقول إنو بعد خراب سوبا أكبر تحول بنيوي حصل للسودان بعد الاستعمار هي الإنقاذ.
الكلام دا صحيح جدا. داير أبدا من الأثر البنيوي للإنقاذ كمدخل للمقال دا.
——————————————————
غداة الاستعمار أصبح السودانيين على منتجات حداثية واجتماعية سياسية واقتصادية، من مظاهر المدن الحديثة، سكك حديدها وجامعتها وخدمتها المدنية وتخطيطها الحوكمي الحديث ومشروع جزيرتها وكباريها وأنماط الزراعة الحديثة والتجارة الحديثة وغيرها من مظاهر الارتطام العنيف لمجتمع تقليدي فكريا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا بدولة حديثة مع كافة أشكال حداثتها؛ أشكال من الحداثة المسطحة لو أنفق السودانيين ربما ثلاث لأربع قرون لما أنتجوها. في اللحظة دي كنا ولا نزال زي الشافع العمرو سنتين وجابوا ليو لعبة مفروض يلعب بيها شافع عمرو عشرة سنين. حتى التراث الإسلامي اللي كان لحظتها معرّفا للثقافة والحضارة في وعينا من بقايا سنار، لم يرتطم بنا والحضارة الإسلامية في أبهى عصورها، ولكنه ارتطم بنا في عهود اضمحلالها على عكس مصر مثلا، ولعل الفرق بين أزهر مصر وخلاوينا أكبر دليل على ذلك. فكما يقول أبو القاسم حاج حمد لم نستبقل الحداثة ببقية بأكثر من طبقات ود ضيف الله ونبؤات وحِكم فرح ود تكتوك.
فالاستعمار كان تحول بنيوي ضخم في اجتماعنا في كل جوانبه ثقافة وسياسة واقتصادا. بداية معالم تشكل السودان كحدود جغرافية جاءت مع محمد علي باشا وبداية تشكله كوعي ومخيال وطني في إطار التقليدية السياسية بدأت مع المهدية. واجه السودانيون الاستعمار في تلك الأيام كقبائل بوعي ديني وسردية دينية متجاوزة للقبيلة شكّلها المهدي الإمام. في المحطة دي مهم ننتبه إنو مخيالنا الوطني أساسا، استنادا على الجغرافيا السياسية لسودان محمد علي باشا، هو في الأساس مخيال مقاوم، مخيال وعي الثورة فيو مركزي ومحوري.
أما بداية تشكل الوعي الوطني بمخيال حديث للدولة فبدأ مع الحركة الوطنية. وفي ذلك ثورة أربعة وعشرين عندها رمزية كبيرة ومنها لحدي مجلة الفجر وتشكيل الجبهة المعادية للاستعمار (الحزب الشيوعي سابقا) ومؤتمر الخريجين. الحركة الوطنية هي المحطة التانية البتأكد عمق الخيال المقاوم والثوري في تشكيل الوعي الوطني بالدولة. وكذلك كل لحظاتنا الوطنية الكبرى ارتبطت بمقاومة الاستعمار في المهدية والحركة الوطنية، ومقاومة ما بعد الاستعمار في أكتوبر وإبريل وديسمبر.
——————————————————
كسرة: في نقاشي مع جزو من شباب حزب بناء السودان بقول ليهم دراسة سيكولوجية الشعوب السياسية مهمة جدا في الطرح السياسي. صعب جدا شعب مخيالو الوطني ثوري ومقاوم نقول ليو ما تثور. حقو مجهودنا يكون إنو نجتهد نوريهو يثور كيف وعشان يصل لشنو. مصر مثلا مخيال الوطنية بتاعها مرتبط بالجيش وحروبها مع إسرائيل: دا الشكل هويتها الوطنية. السودانيين لكن مخيال الوطنية حقهم مرتبط بنضالهم المشترك المسلح والسلمي ضد الاستعمار وحكومات ما بعد الاستعمار. أعظم أغانيهم الوطنية البتشكل مخيالهم الوطني أنتجوها في اللحظات دي. فحقو نحدد المشكلة في مخيال الحكم عبر الشرعية الثورية تجاوزا للتوافقات الوطنية التأسيسية في الانتقالات ما في الثورة نفسها كفعل مقاوم للاستعمار وما بعد الاستعمار. يعني نقول لي لجان المقاومة وكتلة ديسمبر عموما مواثيقكم وفكركم الثوري غلط مش ثورتكم غلط؛ نقول ليهم وعيكم الداير يتجاوز التوافق الوطني ويحكم عبر الشرعية الثورية غلط؛ تصوركم المثالي للسياسة وعدم التمييز بين جذرية الأهداف ومرحلية وتدريجية تحقيقها غلط؛ تجاوزكم لسؤال شرعية تنظيماتكم غلط؛ وهكذا. لكن صعب نقول للسودانيين الثورة غلط. دا تحدي عميق لوعي ومخيال وطني لشعب أصلا ما عندو رصيد مشترك غير الثورات ونضاله ضد الاستعمار وما بعد الاستعمار. المطلوب نجتهد نوري الثائر السوداني لي ثوراتك بتنجح في إسقاط الدكتاتوريات لكن بتفشل في بناء الديمقراطيات. بناء السودان حزب في حد ذاته ثورة وبالذات لو اشتغل على إعادة تعريف الثورة بدلا من تسفيهها. في دولة ما فيها أصلا توافق على دستور ولا قانون ولا ماهية للدولة صعب تكون مشكلتنا مع الثورة إنها مخالفة للدستور والقانون. بس نحن حقو نثور ونكون عارفين إنو هدف ثورتنا صناعة دولة ودستور وقانون. ودا الما حاصل.
——————————————————
نرجع بعد الكسرة:
يلا الإنقاذ في الإطار دا كانت أكبر تحول بنيوي حصل في اجتماعنا الحديث (أو بالأحرى شبه التقليدي) بعد الاستعمار، لي؟! الإنقاذ باختصار ريّفت المدينة ومدّنت الريف وعبرت عن أقصى بنية سلطوية ممكنة لسودان ما بعد الاستعمار. كيف؟!
المجتمعات الشبه تقليدية، أو مجتمعات ما بعد الاستعمار، مشكلتها قلنا إنها مجتمعات تقليدية بيسقط عليها جهاز دولة حديث بي كل مظاهر حداثته السياسية والاقتصادية. يلا المجتمعات دي الفاعلية السياسية فيها بتتبني على أسس هوياتية بي درجة كبيرة يا قبلية يا إثنية يا طائفية يا دينية، حسب تقسيمتها. لأنو المجتمعات دي ما حديثة أو صناعية الفاعلية السياسية فيها ما بتتبني على مصالح مادية حديثة زي السكن والعمل والمصالح المرتبطة بعلاقات الإنتاج، لكن دي كلها بتكون مدخلات للصراع في شكله التقليدي. يعني مثلا، تخيل دولة الاستعمار جا فيها وفيها تلاتة إثنيات. حتلقى طوالي الفاعلية السياسية والصراع السياسي فيها على جهاز السلطة هو صراع صفري على الجهاز دا. صعب تتخلق نخبة تقول للتلاتة مجموعات الإثنية دي أرحكم نعمل توافقات تأسيسية تخليني نتفق على دولة تشيلنا كلنا زي ما حصل في ماليزيا مثلا. لأ: أي واحد منهم حيجرب حظه ويخش مع الباقين في صراع صفري على الدولة. هنا لمن واحد منهم يستلم السلطة حيتعامل مع جهاز الدولة الحديث بطريقة تقليدية. ببقى الجهاز دا حديث بنية لكن تقليدي وظيفة. جهاز منطقه السياسي ما قايم على التعيين بالكفاءة لكن الحاكم بعين فيهو قرابته ولاءاته ويشتري بالمال السياسي جزو من المكونات التانية. وحيحكم بي طريقة ما شرعية بتخلي همه في القعاد في السلطة أكبر من همه في إحداث تنمية حقيقة وحيتعامل مع جهاز السلطة كغنيمة. دي ظاهرة إسمها النيوباترومنيالية. ظاهرة مرتبطة بدول ما بعد الاستعمار وعبارة عن طور سياسي بتمر بيو أغلب الدول دي. طور ضروري في مسيرة تطورها وبيساهم بي درجة كبيرة في إنو يعمل نصف تنمية في الريف وبيزيد شوية شوية من الكتلة المتعلمة والأشواقها حديثة ودي زاتها بتبقى بعد شوية أكبر مهدد للحكم النيوباترمنويالي. ودي الحاجة البتخليو يصل مرحلة يستنفد أغراضه ويفقد قدرته على الاستمرار. وزي ما الرأسمالية بتنتج نقيضها في المجتمعات الحديثة بي إنها تجيب طبقة من العمال المصالحهم المادية مناقضة ليها، النيوباترومنيالية بتنتج نقيضها في المجتمعات شبه التقليدية وتجيب طبقة حديثة مصالحها المادية مناقضة ليها.
يلا لو مسكت السودان دا حتلقى إنو أكبر خط تقسيم تقليدي فيو هو الهوية الإسلامية والعربية. يعني دي أكبر مساحة تقليدية بيقعوا فيها أغلب السودانيين. ولذلك بنيويا السودان كان لازم ينتج زول زي حسن الترابي وتيار زي الحركة الإسلامية يقدر يستثمر في فاعلية سياسية قايمة على خط التقسيم التقليدي للهويتين ديل. دا مثلا بيفسر ليك حرب الجنوب. وكذلك مثلا لي الطائفتين الكبار في السودان عندهم حربين. باختصار دي كلها خطوط تقسيم تقليدية قاعدة لازم تُستثمر سياسيا. الإسلاميين تحديدا بيتميزوا على الطائفتين بي إنو خطابهم بيصل النخبة الحديثة في المدينة والتقليدية في الريف. ودا البيخليهم أكتر ناس بيقدروا يستثمروا خط الطول التقليدي دا استبداديا. وإن كان حزب الأمة بيستثمروا انتخابيا. فباختصار الإسلاميين هم أكبر تيار كان عندو حظ للحكم نيوباترمنياليا عبر أكبر مساحة تقيليدية أو هوياتية في السودان. الشي التاني الإسلاميين وتحديدا النخبة الحديثة منهم بتعبر بدرجة كبيرة عن متعلمي الريف (معظمهم ما كلهم). يعني أغلب الإسلاميين، أهلهم من الدرجة الأولى (الأم والأب والأخوان) بيكونوا في الريف وتحديدا الأرياف حول المدن الكبرى. الإسلامي بيكون زول نابه اتميز ودخل الكتاب ومن هناك دخل الثانويات المشهورة وجامعة الخرطوم ولا الفرع. وغالبهم خريجي الجامعات في الستينات والسبعينات والتمنينات.
——————————————————
طبيعة التكوين دا، ومعطى الحكم بشرط الاستبداد بانقلاب ٨٩، وبالذات في آخر عشرين سنة، أدخل النظام في علاقات زبائنية مع الريف والمجتمع الديني التقليدي. الإنقاذ عموما عملت نصف تنمية في الريف والمدن (قصدي بي نصف التنمية هي التنمية الما محكومة بي خطة تنموية واضحة للتحول الصناعي ولا نظام حوكمي مضبوط) في كل ولايات السودان بحكم اقتصادها السياسي. فزاد عدد الشوارع والردميات والمستشفيات والجامعات ومرافق الخدمات عموما وبالذات الكهرباء والاتصالات. دا كلو ما كان جاي في سياق مفكر فيو ومخطط ليو لكن خبط عشواء بناء على علاقات السلطة الكان بحكم حجم القاعدة الاجتماعية القايمة على أعرض خط تقسيم تقليدي وارتباط دا بالمدن والأرياف في كل ولايات السودان بتضطر النظام لتعديد مستويات الحكم اللامركزي لاستيعاب أكبر قدر من القبائل والمجموعات السياسية في هيكل السلطة. الحاجة دي زادت عدد الكتلة الحديثة في السودان بتضخم هندسي من الألفينات. ودا السبب المباشر لوجود لجان مقاومة في الغالب الأعم من محليات السودان. دي الكتلة الاستفادت من التحديث النصفي دا وبقت متضررة منو.
وفي الوقت نفسه المنطق التقليدي في التعامل مع جهاز الدولة الحديث انتهى من كل مظاهر التمدن والتحديث الخلاها الاستعمار في المدينة. الإنقاذ وصّلت قدر الحداثة الفي دولة ما بعد الاستعمار الحديدة. وأهم عنصر هنا هو انهيار الحداثة الحوكمية في كل مرافق الدولة وحتى في المجتمع السياسي. يعني مثلا لو لاحطت عساكر الجيش زي الحوري وطارق كجاب ما بيتحرج أساسا علنا يتكلم في السياسة وينبز الأحزاب السياسية. لاحظ دا ما ياسر العطا ولا البرهان. يعني زول ما قاعد في الجهاز السياسي لكن في البيروقراطية العسكرية. المؤسسة العسكرية عندها جريدة ما بتعرفها آخر لحظة ولا صحيفة عسكرية. عساكر السيادة ما متحرجين أساسا يشاركوا أحزاب سياسية. هو جوا راسو ما قادر يفهم إنو دا شي بناء على الحوكمة الحديثة ما بيركب أساسا يعني زي وزارة الصحة تشارك حزب. بذات القدر زول لجنة المقاومة ما عندو نظام أساسي يعرف ابتداء لجنة المقاومة هي شنو داير يخت إطار دستوري للانتقال ويسلموهو السلطة بس ساي كدا لأنو ثوري. مبادرة أساتذة الخرطوم ما قادرة تشوف قيمة وجودها شنو في وجود نقابة شرعية بتمثل الأساتذة ولا عارفة تشتغل كمجموعة سياسية ولا كبيت خبرة ولا شنو. تقليدية الانقاذ وتقليدية وعيها الحوكمي هجم على حداثة بقايا دولة غردون باشا وعلى مجتمعها السياسي حتى طال الأحزاب السياسية كلها والتنظيمات المدنية. بمعنى آخر، لو كانت نخبتنا الحديثة غداة الاستقلال حوكميا أقرب للحداثة الحوكمية الدخيلة، بنهاية الانقاذ عادت أقرب للتقليدية وحصلل تحلل كامل في جهاز الدولة وفي المجتمع السياسي وانتفت المقدمات الأولى للعقلانية السياسية الحديثة وساد الوعي القبائلي على كل منظوتنا الدولتية منها وغير الدولتية، بالذات من حيث الوعي الحوكمي وقواعد وإجراءات التنظيمات الحديثة.
وهنا، أعتى مظاهر ترييف المدينة وتمدين الريف (نصف التنمية الريفية) جسدها الوريث الشرعي للإنقاذ البيمثل غاية تمظهر التقليدية السياسية واللا عقلانية السياسية: الدعم السريع. حميدتي جا تمّ الناقصة وأجهز تماما على بقية غردون ومحمد علي باشا وهو آخر بقايا منطق نيوباترومنيالية الإنقاذ. مليشيا أسرية ببعد قبلي ذات تراتبية عسكرية مستقلة ماليا وإداريا وعملياتيا من أجهزة عنف الدولة وعندها فضاء سياسي واقتصادي بيشكل دولة داخل دولة. وهنا لو لاحظت حتلقى هيئة العمليات كانت نموذج مصغر للدعم السريع استثمرت في المهمشين نصفيا من شباب الريف الشمالي. ولو لاحظت لخطاب ترك قبل كم يوم وشفت الجمع الجماهيري حتشوف إنو المهمشين نصفيا من شباب الريف الشرقي هم مشروع دعم سريع قيد التشكيل. وهنا التهميش النصفي دا مهم لأنو الشباب ديل وصلتهم كهرباء واتصالات وشايلين موبايلات لكن ما عندهم فرص حياة حديثة كريمة. فبكرة لو ظهر في الشرق من واقع التهميش دا زول زي حميدتي باقتصاد سياسي مركزي نيوباتروميالي فيو عسكري زي البشير ولا البرهان وسياسيين سلطويين زي المؤتمر الوطني ولا الحرية والتغيير واقتصاد سياسي أقليمي بيعبر عن مصالح دولة زي الإمارات ممكن يخلق نفس الظاهرة. وفي الحقيقة حميدتي في فترة استهدف قبايل الشرق. حميدتي ظاهرة بنت تحالف العسكري والأفندي والشرتاي والطيفلي العامل على وراثة دولة محمد علي باشا، وثوراتنا وانقلاباتنا ما بتنجح في شي غير تستبدل التحالف دا من رباعي قديم لي رباعي جديد من فاعلين جدد شغالين في نفس البنية. فالحرية والتغيير مثلا لمن حكمت بالشرعية الثورية في الانتقال ما أنجزت ولا بند تأسيسي واحد وهي وعسكر مجلس السيادة ركبوا في ذات الاقتصاد السياسي للبشير والمؤتمر الوطني. فثوارتنا للأسف لا تعدو أن تكون انتفاضات تغير شاغل جهاز السلطة ولا تغير طبيعة جهاز السلطة، لأنو منذ الاستقلال ما جات ثورة هدف كتلتها كان تأسيس الدولة. ثورة هدفها تسوية تاريخية تأسيسية شاملة تهزم الانحيازات البنيوية للدولة لإثنيات على حساب أخرى، وللمركز على حساب الهامش، وللمدينة على حساب الريف؛ وتهزم طبيعتها السلطوية لصالح طبيعة ديمقراطية وطبيعتها الاستخراجية لصالح طبيعة صناعية تنموية.
وهنا لاحظ السودانيين قاوموا الاستعمار أول مرة ككقبائل مع المهدية وبعد قريب المية وعشرين سنة جو قاوموه كسكان. بمعنى، المخيال الوطني أعاد إنتاج نفسه في شكل حديث بفعل نيوباترومنيالية الإنقاذ ونصف تنميتها. بمعنى آخر، دولة ما بعد الاستعمار في عهد الإنقاذ أنتجت نقيضها بقدر أنتج نخبة حديثة شملت فاعلين بغطاء السكن في غالب محليات السودان بظهور لجنة المقاومة في الاجتماع السياسي السوداني. المهم هنا إنو لجنة المقاومة تنظيم نقابي في الحي أهدافه الأساسية أهداف في الأصل وطنية عامة ما مناطقية خاصة. فهي نشأت من أول يوم مقاومة للاستبداد وبشعارات وطنية تنادي بالحرية والسلام والعدالة. في وقت الاستقلال التنظيم الحديث القاوم الاستعمار كان تنظيم عضويته قائمة على الخريجين. ودي فئة عضويتها قليلة. في أكتوبر وإبريل السودانيين قاوموا ما بعد الاستعمار بتنظيمات عضويتها قائمة على العمل زي جبهة الهيئات في ٦٤ والتجمع النقابي في ٨٥. بينما في ديسمبر، الكتلة دي بلغت من التمدد إنها قاومت ما بعد الاستعمار بأشمل غطاء سياسي قائم على أساس السكن في الغالب الأعم من محليات السودان. ودا تحديدا مناط القول بإنه الإنقاذ هي أكبر تحول بنيوي حصل بعد الاستعمار لأنها أبلغت الدولة دي حدود تناقضتها بأنو الكتلة المتضررة منها بقت تقاوم سلطويتها واستخراجيتها بأشمل غطاء للفاعلية السياسية عبر السكن. ولذلك بنيويا ديسمبر ثورة تأسيسية: تترك الدولة دي أمام مصيرين لا ثالث لهما: الانهيار الكامل أو التأسيس الشامل.
——————————————————
يلا بناء على الكلام دا، درس الإنقاذ الأول للسودانيين، إنو السودان دا عاد على الإطلاق لا يحكم استبداديا بمنطق نيوباترمونيالي. أقوى تحالف لأعرض خط تقسيم تقليدي في فضاء الدولة حكم ٣٠ سنة وسقط بعوامل فناء داخلية. ياتو زول تاني حيجيب بنية أقوى من دي؟! السودان دا لا مركزه حسم هامشه ولا نخبته الحديثة حسمت جماعاته التقليدية ولا مدينته قدرت تستأثر بالمقدرات على ريفه اللي انتقم منها شر انتقام في حرب الخامس عشر من إبريل، ولا عربه حسمه زرقته، ولا يمينه السياسي حسم يساره. فالناس أحسن تفكر تقعد تتوافق توافقات تأسيسية عادلة صلبة شاملة ومستدامة. عسكري داير يحكم بالاستبداد ولا نخبة مدينية داير تحكم بالشرعية الثورية ولا يمين تقليدي داير يحكم بديمقراطية لا دستورية، ديل كلهم ناس دايرين يجروا بينا هوا. النخبة الحديثة الراغبة في التحول الديمقراطي والتنموي حقو تصرف قوتها التساومية ما في إنها تحكم عبر الاستبداد ولا الشرعية الثورية، لكن في إنجاز توافق يسمح ليها بالتحديث الاقتصادي. دي الطريقة الوحيدة لهزيمة الفاعلية السياسية للمجموعات التقليدية بنيويا في ظل استقرار سياسي. سكة حديد تربط السودان دا من حلفا لي كاودا ومن طوكر لأم دافوق في وجود خمسة مشاريع تنموية كبرى في أقاليمه المختلفة بإطار حوكمي محكم، حتخلي الإنسان السوداني في خلال ١٥ سنة ما قادر أصلا يحيل للقبيلة كمصدر للفاعلية السياسية السلمية ولا المسلحة. دي مصلحة مادية الجماعات التقليدية بنيويا ما ضدها لكن أي حكم يتجاوزها حتهزمه يا كحليف للاستبداد يا كناخب لقوى تقليدية في ديمقراطية لا دستورية. دا درس ترك في الانتقال الفات ودرس حميدتي في حرب إبريل. ولذلك المصلحة الحقيقة في إنجازات توافقات تأسيسية صلبة تأسس حداثة سياسية توافقية تخلينا نقدر ننجز حداثة اقتصادية تحل المشكلة من جذورها، عشان نصل التحول الصناعي البيحل مشكلتنا جذريا.
أما درس الإنقاذ الثاني للسودانيين إنها قعدتنا في السهلة بتمدينها للريف وترييفها للمدينة. دا خير ما شر عشان ننطلق من واقعنا الحقيقي. لأنو واقع ما بعد الاستعمار الصبحنا عليو غداة الاستقلال أصلا ما حقيقي وزائف وعشان كدا بذر معاني سياسية زائفة. فالدرس إنو نحن حرفيا عندنا مشكلتين. المشكلة الأولى إننا ما واعيين بالأزمة، أو بنعاني من أزمة عدم الوعي بالأزمة على وصف أبو القاسم حاج حمد. والمشكلة التانية إنو ما عندنا المؤسسات اللي لو وعينا بالأزمة بتنتج لينا الكادر البشري البيخارجنا منها.
يا أخوانا نحن عشان نصمم نظام حوكمي للسودان ولا نعمل خطة محكمة للتحول الصناعي ولا نظرية رصينة للأمن القومي ما عندنا ابتداء قدر كافي من نخبتنا عارف إنو دي مشاكلنا ولا شايل دا كمعاني سياسية للمستقبل. وبعداك لو وعينا ما عندنا كادر بشري ينجز مشروع بالضخامة دي. لازم نجمع على إننا زي ما بيقولوا الخواجات (آسف للفظ) In a deep shit. لازم نشتغل بمبدأ الفهم قبل القول والعمل. أعقد عملية عملها الاجتماع الدولتي الحديث على الإطلاق هي التحول الصناعي زي ما حصل في النمور الآسيوية الكلها استفادت من تجربة الصين. أنت بتكون التحديث الاقتصادي الحصل بطريقة ما مخطط ليها على مدى قرون في أوربا داير تنجزه بطريقة مخطط ليها ومحكمة في عقود، داير تعمل دا في عالم متداخل جدا فيهو صقور جيوبوليتيكين كبار وتحديات أقليمية كبيرة و
وفي إطار حوكمي مضبوط جدا وداير توطن التكنلوجيا والمعرفة العملية في مجتمع تقليدي. يلا الصين دي مثلا اجتماعها السياسي أنتج الدولة الحديثة آلاف السنين قبل الميلاد وكان عندها في الوقت داك كلية لدراسات الحوكمة وخدمة مدنية قايمة على أساس الكفاءة زي ما قال الكتاب. دا التاريخ الماو تسي تونج والحزب الشيوعي الصيني جو في سياقه. نحن اجتماعنا السياسي قبل الاستعمار التركي وقف في محطة سنار ودارفور ودا بي كل المقاييس ما اجتماع سياسي حديث ولا نحن في اتصال تاريخي معاو. عشان كدا الحركة الإسلامية في السودان أضعف حضاريا بمراحل من الحركة الإسلامية في تركيا وماليزيا وحزبنا الشيوعي أضعف حضاريا بمراحل من الأحزاب الشيوعية في بلدان زي الصين وروسيا.
يلا هنا الدول البعد الاستقلال نخبتها قررت تبقى كبيرة كان بتبتعث بالآلاف أنجب أبنائها عشان يدرسوا حوكمة التنمية والتحول الصناعي في مختلف الدول ومختلف التجارب. وغالب الدول دي عملت جامعات مربوطة مع أجهزة الدولة عشان تخرج منظرين ومطبقين للحوكمة وصناعة السياسات والتخطيط التنموي والأمن القومي. أنت كان عندك مية سوداني فاهمين حوكمة زي حمدوك فديل أصلا ما أنتجوا في سياق المشكلة السودانية ولا المؤسسات التعليمية السودانية مصممة عشان تنتج ناس داير يحلوا مشاكلنا.
فيا أخوانا نحن في مأزق حقيقي وبنيوي وكارثي لازم نكبر فوق سغرتنا دي ونطلع من الشجون الصغرى يا قول الدقير. شوف محمد بن سلمان دا مثلا. مما الاقتصاد السياسي لكرسي حكمه بقى جابره على التحول الصناعي فارق الهبل من كله. وييين الصراع السني الشيعي؟! ختاو في الدرج وصالح إيران! وييين هرجلة ومغامرة اليمن؟! حسع بقى داير اليمن تستقر! ويين الشكلة مع قطر؟! حسع مشى صالحهم. ببساطة كبر فوق سغرته. أصلو الزول من يشتغل بالمليانة بخلي الفارغة. الزول دا حسع بدرس الناس تفكير نقدي في المدارس عشان يدشن عقل نقدي علمي يسهم في استحداث المعرفة وتوطين التكنلوجيا. فنحن مثلا يوم النقرر نكبر فوق قبائليتنا السياسية ونخلي عوارة الكيزان والقحاتة والحركات المسلحة والحكم بالشرعية الثورية والإقصاء والهبل حقنا دا، يوم النقرر نكبر فوق سغرتنا حنبكي دم على الجنوب الانفصل دا عشان تطبق حدود جزائية في الشمال ما اتطبقت أصلا. ياخ أي نظرية للتحول الصناعي والأمن القومي للسودان دا حتضطرانا مش نعمل بس سلام حقيقي في دارفور وجنوب كردفان وتنمية حقيقة في الشرق كمصلحة وطنية عليا، لكن كسر جبر حنفكر في وحدة طوعية مع الجنوب، وبل كونفيدرالية أفريقية عديل من خلال الوحدة دي.
فيا أخوانا بالجد نحن مفروض نكبر فوق سغرتنا. السودان دا بالجد داير ناس يطلعوا من خيال وزير وسفير ومدير دا لصالح خيال تأسيسي حقيقي. حسع عليك الله البرهان دا داير يبقى رئيس بي كل التعقيدات دي عشان ينجز شنو؟ كتيره قعدة بالعراقي في قندتو يتمريس فيها كدا على أهله. وكذلك ناس الحرية والتغيير داير يبقوا وزراء لي؟ عشان ينجزوا ياتو مشروع؟! محض صراع على السلطة بيخلي الزول تنتهي مهمته وأحلامه بمجرد قعاده في الكرسي. ياخ الكيزان ديل حكموا ٣٠ سنة لي يوم الليلة ما عارفين مشروعهم الحضاري الجو بانقلاب عشان يطبقوه دا شنو؟ فيأخوانا السودان دا حسع بالجد ما بيستحمل سغرة صراع محض على السلطة. نحن كشعب في مأزق حقيقي لازم نقعد في طربيزة نتفق اتفاقات تأسيسية صلبة شاملة ومستدامة وقبل كدا عادلة وبكتوف متساوية تمرقنا من مأزقنا التاريخي دا نحو استقرار سياسي يخلينا نقدر نخطط للتحول الصناعي. الحاصل علينا من ٥٦ دا حقيقي شين وهبل وزمنه فات واستنفد أغراضه. لازم ندشن عهد فيو عقلانية سياسية. الحاصل علينا دا تراكم من عدم العقلانية السياسية من الاستقلال.
—————————————————-
يلا لو قلنا نمشي على الدرب دا، ونودع عصر ما بعد الاستعمار، بعد الحرب دي مفروض نتفق نمشي على فترة ما قبل انتقالية مش فترة انتقالية. فترة عندها هدفين بس: الهدف الأول، إنجاز توافق وطني ماقبل انتقالي عشان نتفق على هياكل سلطة ودستور وبرنامج الانتقال. في الفترة الما قبل انتقالية دي ما بننجز التوافقات التأسيسية، لأ بننجز توافقات ما قبل انتقالية تودينا على الانتقال الحننجز فيو التوافقات التأسيسية عبر جهاز الدولة نفسه. والهدف التاني إعادة الإعمار بعد الحرب. وهنا يكون هدف الحكومة تفتح المرافق الخدمية الاتدمرت وتصرف الأعمال من غير أي إصلاحات عميقة في الاقتصاد ولا أي بند جدلي. موضوعنا الأساسي يكون هو التوافق التأسيسي ما قبل الانتقالي. باختصار الدولة تكون شغالة توافق وإعادة إعمار. والتوافق دا يجرى بأقصى درجة من الاحترافية والشفافية وأجهزة الدولة كلها تخدمه وبالذات الإعلامية. لحظتها ممكن نقول للعالم كله هناك أمة عظيمة قيد التخليق. تعالوا اتفرجوا. لا فولكر لا أمم متحدة لا إمارات لا سعودية لا مصر. دا مشهد دايرينو بإرادة وطنية سودانية مكتملة: مشهد سيكون أكثر ما يباهي به السوداني ويفتخر يوما كمشهد مؤسس للدولة الأعقد في أفريقيا والعالم العربي. مشهد للتاريخ!! مشهد لن نحب بعده بعضنا، ولكن سيكفينا فخرا أننا توافقنا فيه على إدارة كراهيتنا لبعضنا: ودا مناط العقلانية السياسية الغائبة.

عمرو صالح ياسين

Exit mobile version