هل من مصير مشترك بين جنوب السودان ودارفور؟

منذ بدايتها المفاجئة في 15 أبريل (نيسان) الماضي، انتظر الناس نهاية سريعة للحرب السودانية، لا سيما أنها اتخذت شكل الصراع على السلطة، ولم تكن لها أبعاد أخرى قبلية أو إثنية، لكن سرعان ما التحمت نار حرب الخرطوم بالصراع الدائر في دارفور، فإضافة إلى عوامله التي تأسست على كونها حرباً إثنية، زاد عليها الصراع العسكري بين الجيش وقوات الدعم السريع.

ظل الوضع في دارفور غير مستقر، إذ شهدت مناطق عدة، خصوصاً منطقة كرينك، عنفاً مستمراً خلال السنوات الأخيرة، ففي أبريل من العام الماضي أدى هجوم نفذته قوات الدعم السريع شبه العسكرية إلى مقتل أكثر من 200 شخص وإصابة كثيرين، بمن فيهم عدد من المرضى والموظفين داخل مستشفى المدينة الذي تدعمه منظمة “أطباء بلا حدود”، ونزوح ما يقارب الـ20 ألفاً من أهالي المنطقة. واستمرت النزاعات في دارفور فشملت منطقة جبل مون، كما نشب صراع بين قبيلتي الرزيقات والفلاتة قبل ذلك بولاية شمال دارفور ووسطها، ودخل عنصر الصراع على الأراضي والحواكير محركاً أساسياً. وعندما عقد اجتماع المجلس الأعلى للترتيبات الأمنية في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، في الثالث من فبراير (شباط) العام الماضي، شارك رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) بمتابعة سير بند الترتيبات الأمنية الذي نصت عليه اتفاقية جوبا للسلام التي وقعت في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 2020، ومتابعة الأوضاع الأمنية في الإقليم المضطرب، وتشكيل القوات المشتركة المعنية بتحقيق الأمن والاستقرار في دارفور. ظل النزاع يتكرر خلال العام الماضي حتى تبلور، أخيراً، في بروز أزمة “دار مساليت” كمكون اجتماعي قبلي آخر يضاف إلى أزمات المكونات الأخرى، ويشكل أحد محاور القبائل الأفريقية ضمن ثنائية “عرب وزرقة” السائدة. بعد توقيع اتفاقية نيفاشا عام 2005 بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان لإنهاء الحرب الأهلية في جنوب البلاد، التي نصت على إجراء استفتاء لتقرير مصير الإقليم، طالبت الحركات المسلحة في دارفور أيضاً بالانفصال، وحاولت الاستفادة من أوراق الضغط التي استخدمتها الحركة الشعبية لتحقيق انفصال الجنوب وهي الاختلاف الإثني، بيد أنها لم تستطع الترويج للاختلاف الديني، وجاء التركيز كثيفاً على موضع الإثنية واستخدام نظام عمر البشير لميليشيات “الجنجويد” (الدعم السريع في ما بعد) في التصفية الإثنية. وبرزت جرائم “الإبادة الجماعية” ضمن التهم الموجهة للنظام السابق. وكانت المحكمة الجنائية الدولية أصدرت في عامي 2009 و2010 أمرين باعتقال البشير لاتهامه بتدبير إبادة جماعية وأعمال وحشية أخرى في إقليم دارفور، إلى جانب مذكرات توقيف في حق آخرين من قادة نظامه.

استمر تناول الأصول السكانية لمجتمع دارفور محركاً للصراع الإثني منذ اشتعال الحرب عام 2003، إلى ما بعد سقوط البشير إثر قيام ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018. ولم يفلح توقيع اتفاق السلام بجوبا مع الحركات المسلحة في دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وجبال النوبة في تحقيق الاستقرار بالإقليم. وتخلفت عن الاتفاق الحركة الشعبية لتحرير السودان -جناح عبدالعزيز الحلو، وحركة تحرير السودان- جناح عبدالواحد محمد نور، وتحول الصراع إلى قبلي تؤججه بعض الحركات المسلحة، أما قوات الحركات الموقعة فقد انتقلت إلى الخرطوم تمهيداً لتنفيذ بند الترتيبات الأمنية ودمجها في الجيش السوداني، ومع ذلك لم يتوقف الصراع القبلي في دارفور. أصدر سلطان دار مساليت سعد عبدالرحمن بحر الدين مع خروجه من مدينة الجنينة غرب دارفور إلى تشاد بعد شهرين من الحرب، بياناً أوضح فيه “استمرار العدوان والقتل والحرق والتشريد والحصار التام لمدينة الجنينة، وهو مخطط لاستهداف قيادات المجتمع ومساكنهم، ما يجمعنا بدولة السودان هي أرض دار مساليت التي أصبحت جزءاً من السودان بموجب اتفاقية قلاني، التي نحن بصدد مراجعتها وكيفية تنفيذ بنودها”. وإذا كانت النزعة الانفصالية قد تعمقت في كل إقليم دارفور منذ عقود، فإن وضع دار مساليت يختلف عن وضع دارفور التي انضمت إلى السودان الإنجليزي- المصري عام 1916، فدار مساليت كانت سلطنة مستقلة ولم تكن جزءاً من السودان الإنجليزي- المصري، وخاضت معارك عدة مع الفرنسيين، الذين احتلوا جزءاً منها وهي منطقة أدري ضمن سيطرتهم على منطقة غرب ووسط أفريقيا. وقد استفاد سلطان المساليت بحر الدين المعروف بـ”أندوكه” وتعني “القدح الكبير” كناية عن الكرم، من التنافس الاستعماري بين الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية. نجح السلطان بحر الدين في عقد معاهدة بحضور الطرفين في منطقة قلاني، 19 سبتمبر (أيلول) 1919، ودخلت حيز التنفيذ عام 1922. وتنص الاتفاقية على اختيار دار مساليت الخضوع إدارياً لحكومة السودان، وأن تتنازل عن منطقة أدري التي تقع ضمن الحدود السياسية لدولة تشاد للفرنسيين، وأن من حق سلطان دار مساليت مراجعة هذه المعاهدة بعد 100 عام وكان ذلك في 2022، كما نصت على أن من حقها أن تختار الاستمرار في السودان أو الاستقلال عنه. وظلت دار مساليت بعاصمتها الجنينة غرب دارفور بموجب هذه المعاهدة تدار من المركز مباشرة حتى عام 1983 حين أصدر جوزيف لاقو الذي كان يشغل، حينذاك، منصب نائب الرئيس جعفر النميري، قراراته التي عدت نكوصاً عن اتفاقية الثالث من مارس (آذار) 1971 والخاصة بالتقسيم الإداري لجنوب السودان. وفي خضم قضية جنوب السودان والضجة التي أحدثها القرار لم ينتبه كثيرون إلى بقية القرار، وهو الذي ألقيت بموجبه خصوصية دار مساليت ومنطقة أبيي.

يكمن التشابه بين أزمة إقليم دارفور وجنوب السودان قبل انفصاله، وهو الذي استندت إليه الحركات المسلحة في كلا الإقليمين لمطالبتها بالانفصال، في عوامل عدة. فهناك العامل التاريخي السياسي للإقليمين والقائم على النهج الإقصائي، فقد كان إقليم الجنوب إقليماً إدارياً منفصلاً فرض عليه الاستعمار البريطاني قانون المناطق المقفولة عام 1932، ولم يكن متاحاً للشماليين الدخول إلى هذه المناطق إلا بإذن رسمي. وطبق هذا القانون لمواجهة المد الإسلامي العربي الذي أثر على حركة إرسال بعثات التبشير المسيحية، ولم يكن الجنوب يعتنق أياً من الديانتين، بل كانت لدى المجموعات السكانية مجموعة من العقائد الروحانية واللهجات المحلية المختلفة. بعد انقلاب الفريق إبراهيم عبود عام 1958 أصدر قانون تنظيم الهيئات التبشيرية، وطرد كافة موظفيها من الجنوب، وانتهج سياسة الأسلمة والتعريب، وضيق الحريات الدينية فهاجر عدد كبير من الجنوبيين إلى دول الجوار وكونوا أحزاباً سياسية أبرزها الاتحاد السوداني الأفريقي لجنوب السودان (سانو)، الذي أرسل مذكرة للأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية عام 1963 مطالباً باستقلال جنوب السودان وحق تقرير المصير ومتابعة دولية لمعالجة قضية الجنوب. أما دارفور فكانت سلطنة مستقلة بنظامها الإداري وجيشها الوطني وعلاقاتها الخارجية، ويتعامل معها العالم الخارجي على هذا الأساس حتى آخر سلاطينها، علي دينار، الذي حكم من 1898 إلى 1917. وعلى رغم اختلاف الوضع السيادي في الإقليمين، فإن هيكلهما العام صمم على أساس الانفصال الإداري. وداخل هذا الهيكل اعتملت نزعات الانفصال، وتأثرت دارفور بما أنجزه المجتمع الدولي للجنوب، فطالبت الحركات بالضغط على الحكومة لإقامة الاستفتاء على وضع دارفور كأحد استحقاقات اتفاقية أبوجا 2006. وتحت إشراف دولي عقد الاستفتاء في أبريل (نيسان) 2016، وصوت نحو 97 في المئة على الإبقاء على دارفور كإقليم مكون من خمس ولايات بحاكم عام. ورأت الحركات المسلحة أن هذه النتيجة تؤسس لإضعاف الإقليم وتقسيمه حتى تنسف حلم الانفصال. لعب العامل الديموغرافي أيضاً دوراً في مطالبة الإقليمين بالانفصال. وإن كان التنوع القبلي والإثني أحد عناصر نجاح بعض الدول، فإنه في السودان شكل بيئة للانقسامات السكانية، ففي الجنوب تهيمن القبائل الكبرى مثل الدينكا والنوير والشلك والزاندي وفروعها على بقية القبائل الأخرى. وقبل الانفصال كانت المجموعات السكانية تشكو جميعها من تهميش المركز لها وحرمانها من التنمية، وبعده أصبحت هذه القبائل على رأس الحكومة والمعارضة بينما أكثر من 60 قبيلة أخرى تعيش في عزلة تامة وتشكو من التهميش.

أما دارفور التي تتكون من أكثر من 50 قبيلة، فبداية الصراع فيها كان بين المزارعين والرعاة من القبائل العربية والأفريقية، وذلك في ستينيات القرن الماضي على الأرض والماء والحواكير، قبل ذلك في الأربعينيات كانت النزاعات محدودة يتم حلها بواسطة الإدارة الأهلية التي أنشأها المستعمر لهذا النوع من القضايا. وأشهر النزاعات كانت حول الموارد، ولما فشلت الحكومات الوطنية بعد الاستقلال في حل هذه النزاعات المتكررة عملت على تسليح القبائل، وبدأت في ذلك حكومة الصادق المهدي في فترة الديمقراطية الثالثة، ثم على ذات الطريق سار البشير حتى تحولت الإثنية إلى عنصر أساسي في تغذية النزاع، وانتشر السلاح وصعب جمعه من المواطنين، واستمر نشاط الحركات المسلحة التي بدأت مطالبة بالتنمية وانتهت إلى المطالبة بالانفصال. تلك المظالم كانت نتيجة طبيعية لاختلال التوازن الاجتماعي وعجز الدولة عن إزالة التشوهات الاقتصادية والسياسية التي خلفها المستعمر، نتيجة لسياسة التمايز الاجتماعي والثقافي واللغوي وسط حال جفاء بين السلطة والمكانة في المركز، مقابل ضعف وغبن نتيجة التهميش. من العوامل أيضاً تدويل النزاع، فقد أخذت أزمة جنوب السودان أهمية دولية كبيرة، ولا تزال قضية أبيي وهي المنطقة الحدودية الغنية بالنفط ضمن القضايا المعلقة بين دولتي السودان وجنوب السودان، وقد تخضع أيضاً لاستفتاء شعبي تحت إشراف دولي، خصوصاً أن المحاولات السابقة لم تحل قضيتها. واهتم المجتمع الدولي بإقليم جنوب السودان انطلاقاً من الاتفاقيات التاريخية في سودان ما بعد الاستقلال، ثم بعد تفاقم الحرب منذ 1985، والتحول إلى سيناريو أشد اشتعالاً في تسعينيات القرن الماضي، فقد أشرف المجتمع الدولي على اتفاقيات مشاكوس 2002، ونيفاشا 2005، وصولاً إلى إشرافه على الاستفتاء، ثم انتهاء بالانفصال. أما اهتمام المجتمع الدولي بأزمة دارفور منذ عام 2003، فقد تركز بعد فشل الحكومة في إنهاء الصراعات المتتالية التي حصدت عديداً من سكان الإقليم، وأسهم في ذلك نشاط منظمات الأمم المتحدة التي لم يظهر أمامها غير أنه صراع بين مكونات عربية وأفريقية. بعد ذلك أشرف المجتمع الدولي على مبادرات لحل النزاعات، ووقع عديد من الاتفاقيات بين الحكومة والحركات المسلحة ومنها اتفاقات أبوغا، وأسمرا، وأنجمينا، وأبشي وغيرها. ولم يحالف هذه المفاوضات النجاح واتسمت بانعدام ثقة كبير بين الحكومة والحركات المسلحة، فاستقوت بعض الحركات بالمجتمع الدولي للمطالبة بالانفصال. استناداً إلى الوضع المبني على الاتفاقيات القديمة التي وقعتها الإدارة الاستعمارية والاتفاقيات الدولية التي تضمن المطالبة بحق تقرير المصير، والتي لم تحل دون مطالبة الجنوبيين بالانفصال، فإنها قد تدعم مطالبة “المساليت” أيضاً بالانفصال نظراً إلى المعاهدة القديمة وحق تقرير المصير معاً. وسينطلق المجتمع الدولي من مبدأ حق تقرير المصير المنصوص عليه في الاتفاقيات الدولية، ومن واقع أن “المساليت” أقلية وسط هذا الصراع، لذا يتوقع أن تجد تجاوباً دولياً كبيراً، خصوصاً أن الحركات المسلحة الأخرى في دارفور تفرقت بين الولاءات الأكبر، وبتوقيعها لاتفاقية سلام جوبا، وتنفيذ بند الترتيبات الأمنية.

“منى عبدالفتاح – اندبندنت عربية”

Exit mobile version