ظل الإعلام العربي في مجمله ومنذ نشوء الدولة الوطنية العربية المعاصرة يتطور نحو السالب؛ فمن إعلام يتجاوب باستحياء مع تطلعات وهموم الأمة مرورا بغياب كامل عن آلام وانشغالات الأمة ثم إلى تحول بالكامل إلى مدفعية في أيدي الأعداء تدك كل يوم قيمه ومعتقداته وتحرث الأرض وتعدها لاستعمار جديد بطرق مستحدثة وخبيثة. اليوم بؤر الأزمات على امتداد الوطن العربي تقع تحت وطأة ضغط الإعلام العربي الذي يخدم بإخلاص الأجندة الدولية المعادية والمسخرة في نهاية المطاف لصالح المشروع الصهيوني في المنطقة. السودان أحدث البؤر الملتهبة في الجسم العربي، ويجد هذا البلد من القنوات الفضائية العربية، ظلما أشد مضاضة من ظلم القنوات الدولية الأخرى؛ فظلت تصب الزيت على نار الأزمة وتلعب دور الفصيل المتقدم في جيش الغزو الأجنبي للبلاد متعدد الجنسيات.
وليس من شكٍ في أن المستعمر الطامع في ثروات المنطقة يعلم تماما أن الإعلام لا سيما الفضائي، أصبح يتبوأ مكانةً محوريةً، وفي بعض الأحيان خطيرةً، سواء كان دعايةً أم تثقيفاً أو معلومات، في مختلف المجالات الحياتيّة، وقد يكون دوره حاسماً في نجاح أي مشروع سياسي، حزبي أو شخصي، أو اقتصادي، بل إنه الوحيد القادر على قولبة الفكر العام أو الاتجاه الفكري والمواقف لعموم المواطنين في أي مجتمع. ويشكّل الإعلام مع القوة العسكرية أهم مصدرين للقوة في المجتمعات والدول فيما تبقى القوة الاقتصادية رهينة بقبولها لدى أي من القوتين لتشكّل ثالوث القوة المهيمنة في المجتمعات والبلدان. وهذا يؤكد تأكيدا على كونه كيف أصبح أهم أدوات الصراعات الدولية الماثلة. وقد سبق للسياسات الإعلامية للدول الاستعمارية منذ الحرب العالمية الأولى ثم الثانية أن سعت إلى استخدام وسائل الاتصال سياسياً بهدف الوصول إلى نتائج محددة تهدف إلى التأثير على الرأي العام محليا ودوليا. والدّور المتعاظم لأجهزة الإعلام قد لا ينحصر في تشكيل الرأي العام فحسب وإنما في صياغة حياة أفراد المجتمع بأكملها صياغة كاملة؛ تماشياً واستجابةً لنظم سياسية واقتصادية واجتماعية تنتظم المجتمع محليا وإقليميا ودوليا، ومع اتساع دائرة العولمة أصبح هذا الدور أكثر وضوحاً في صهر اتجاهات أفراد المجتمع وتشكيلها وصياغتها.
والغرب السياسي الجغرافي، في عمومه وحدة ثقافية واحدة ذات مصالح وأهداف مشتركة، من قبل قال توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق بكل وضوح ينبغي أن تنتصر القيم والمبادئ الغربية على ما يُسميه بالتشدد في العالم الإسلامي مؤكدا أن النزاع في الشرق الأوسط والقضايا الأخرى المتعلقة «بالمتطرفين المسلمين» تدور حول التحديث وما إذا كان من الممكن أن يعتنقوا النظام الغربي للمبادئ والقيم على حد قوله. وتساءل بلير خلال إلقائه كلمة أمام مجلس لوس انجلوس للشؤون العالمية عما إذا كان في مقدور القيم الغربية أن تكون أكثر قوة للمواجهة والتغلب على قيمهم ومبادئهم على حد تعبيره.
والبثُ المباشرُ في هذا العصر المأزوم بالأطماع واستضعاف الآخر، يمثّل غزوا يصعُب التصدي له، وهو يعتبر من أخطر الهجمات في العصر الحديث لأنه يستطيع أن يتحكم في قيم ومفاهيم شعب من الشعوب، أو دولة من الدول لأنه يفرض سيادته عليها. وتدخل الفضائيات في إطار ما يعرف بالإعلام الدولي، حيث يُشير مصطلح الإعلام الدولي إلى تداول الإعلام عبر الحدود، بحيث يتعدى المستهدفين من قبل هذا النوع من الإعلام نطاق الدولة الواحدة، أو الشعب الواحد، فهو عبارة عن اتصال بين أمم ودول مختلفة عبر الحدود؛ فهو تحرك الرسائل الإعلامية عبر الحدود بين اثنين أو أكثر من الأنظمة الثقافية المختلفة. وتستطيع الفضائيات خلق صور فورية عبر الحدود من الصعب تقييمها، ومن المستحيل السيطرة عليها، بيد أنها تكفل أوسع محيط ثقافي، يتم فيه حل شفرات الرسائل السياسية المعقدة بصورة صحيحة أو غير صحيحة. فقد زاد تعقيد العلاقات الدولية، لدرجة أن بعض الدبلوماسيين التقليديين يرون أن الأمواج المتلاطمة للسياسة العالمية، قد أصابها الخبل بواسطة تدخل البث الفضائي.
المدهش أن قنوات الكفيل الاستعماري الرئيسية والناطقة بالعربية تتقمص دورا (موضوعيا أو مهنيا) أكثر من قنوات المقاول العربي من الباطن، فتترك لها الخوض في مستنقع الفسوق الإعلامي بينما تحتفظ هي بشكل مخادع يتناسب مع خدعة الحضارة الغربية التي يراد لها أن تستأصل الحضارات الأخرى لاسيما الحضارة العربية الإسلامية. وليس خافياً أنه عندما يطلق الآخر – الغرب – تعبير «الحضارة» فهو حتما يقصد به الحضارة الغربية. كما أنه يحتقر كافة الحضارات – باستثناء اليونانية والرومانية – ولا يُقيم لها وزنا، ويشجع أفراده على التعالي والتكبر، بل هو يتطرف فيصم كل معتزٍّ بحضارته بأنه يعادي الغرب وحضارته. وهو يعلم أن الحضارة العربية الإسلامية حضارة أصيلة ضاربة الجذور، ويسعى إلى أن يُكافح كل إعلام وطني يحاول إحداث تغيير إيجابي في الرأي العام سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.
ينبغي أن تتحمل القنوات الفضائية العربية مسؤولية استعادة المشروع القومي، وألا تتعامل مع الواقع المحلي تعاملاً تقليدياً تطغى عليه الممارسات الدعائية السياسية، فمن شأن ذلك أن يفسح المجال واسعاً أمام الخطاب الإعلامي الغربي وما يندس فيه من تزييف للواقع العربي، لذلك فإن الفلسفة القائمة على فكرة ستر القبيح وإبراز الحسن لم تعد ذات جدوى في زمن الاختراق الإعلامي لأن «الحقيقة» مهما كانت مرة أضحت اليوم عابرةً للحدود. كما من واجب هذه الفضائيات إزالة الغبار عن صورة العروبة التي تعرضت للتشويه، بينما هي حالة ثقافية وقيم وأسلوب تفكير وليست حالة عنصرية لا يوجد بينها وبين الإسلام انفصام، بل هي متلازمة معه، وهذا التلازم هو السبيل الناجع لمواجهة العولمة الاستعمارية. فالعروبة في مفاهيمها القومية قد بعُدت عن العنصرية وأصبحت أُسسها ثقافية لغوية تضُم أعراقاً شتى فيهم الأبيض والأسود وما بينهما من ألوان، واكتسبت مضامين اجتماعية وتحررية ولاسيما إبان حركة القومية العربية.
د. ياسر محجوب الحسين