يصعب لكل ذي بصيرة واعية أن يواصل الظن الحسن بأن الوضع في السودان سيظل على ما ألفه الناس واعتادوا عليه ، فمما لا شك فيه أن الحرب الجارية حاليا ستؤسس نتائجها لمرحلة جديدة في مسيرة السودان الحديث ، والذي بدأت ملامح تشكله الإجتماعي والسياسي مع حكم التركية السابقة 1821-1885 ، كما أن نتائج هذه الحرب ستؤكد مرة أخري فشل النخبة السودانية في صياغة عقد إجتماعي يؤسس للعيش المشترك تحت ظل هذه الدولة التي ورثوها مليون ميل مربع ثم بدأت بالتناقص بإنفصال جنوب السودان ، ومالم تتدارك هذه النخبة واقعها الأليم بالتنازلات الكبري ، والإعترافات الجزيرة ، والتسامي فوق ( الشجون الصغري ) فإن سيناريو إنفصال لن يكون بعيدا مرة أخري في السودان ..
هناك أربعة عوامل تجعل هذه الحقيقة المؤلمة أمرًا واردا ..
أولها هو أن الحرب الحالية تختلف عن كل حروب لسودان السابقة ، إذ أنها تفجرت في أكثر لحظة تاريخية حرجة للدولة السودانية التي تشهد هشاشة في البني الإجتماعية بصورة غير مسبوقة ، وذلك بعدما أعيتها الأزمات والحروب ، فقد ظل الجيش السوداني يخوض حروبا داخلية منذ ما قبل إستقلال البلاد وإلي الآن ، وصحيح أن هذه المسيرة من الحروب قد أكسبت الجيش السوداني خبرة وتجربة واسعة في إدارة المعارك ، ولكنها ولا شك قد أثرت عليه ، إذ أن أي جيش يظل تحت المعارك لمدة أكثر من خمسين عاما متواصلة قد يكون معرضا للإنهيار ، ومن المؤكد أنه قد وصل لمرحلة الإنهاك ، خاصة وأن الجيش تعرض لحملة قاسية في الفترة الماضية من قبل قوي الحرية والتغيير تنعته بالضعف وعدم المهنية وتقلل من أدواره التاريخية العظيمة ..
ثاني هذه العوامل هي طبيعة هذه الحرب الحالية التي تجري بين الجيش وفصيل متمرد عليه نشأ تحت ظل الجيش ونما وترعرع وقوي عوده تحت رعايتها ، وظل يتمدد يوما بعد يوم حتي كاد أن يبتلع مؤسسات الدولة ، وأنشأ إمبراطورية إقتصادية ضخمة ، وعلاقات خارجية موازية ، يدفعه في ذلك طموح سياسي غير محدود لقيادته التي تجد لها ظهيرا من ناشطي قوي الحرية والتغيير وبعض المحاور الإقليمية ..
العامل الثالث هو نقل الحرب هذه المرة إلي العاصمة الخرطوم في تنفيذ لتهديد قديم ظلت تردده الحركات المتمردة في الأطراف بأن ( الحرب القادمة ستكون في الخرطوم ) وينطوي هذا التهديد على رؤية عنصرية ظلت تتبناها الحركات المتمردة ، ومفادها أن المركز الذي تمثله الخرطوم وشمال السودان مستأثر بالسلطة والثروة علي حساب أقاليم السودان الأخري ، وحميدتي نفسه وشقيقه عبدالرحيم قد رصدت لهما تصريحات تؤكد ذلك ..
تتضافر تلك العوامل لتعمل علي هدم الدولة التي إكتملت الشروط الجغرافية والإجتماعية لتشكلها حين قام محمد علي باشا بغزو السودان إنطلاقا من مصر في العام 1821 وبتوغله جنوبا حتي أعالي النيل ، وإخضاع دارفور فيما بعد وبسط السيطرة على شرق السودان ظهرت جغرافيا الدولة بشكلها الجديد ، وعلي الرغم من تباين الأعراق والسحنات في هذا الكيان إلا أن قوة الدولة حافظت على تماسكه وإستواء بنيانه ، ولأن بناء الأوطان لا يكتمل إلا بتوحيد الوجدان المشترك بين المكونات المختلفة برزت باكرا قضية الهوية وتأثيراتها العميقة علي الوحدة الوطنية والتماسك الإجتماعي ، وكان التساؤل الأبرز حينذاك وظل قائما حتي اليوم هو أي طريق ستسير عليه القومية السودانية ، هل ستتوجه شمالا متأثرة بالإرث الحضاري العربي ، أم ستستجيب لعامل الجغرافيا بمكونه الإفريقي فتطور هويتها بناء على ذلك ، وعلي الرغم من المحاولات المتكررة للإجابة على هذا السؤال إلا أن التجاذب ظل حاضرا وبقوة خاصة حين يتحول إلى المجال السياسي الذي توظف فيه الإنتماءات الجهوية والقبلية من أجل الكسب والتعبئة الإجتماعية ، ولعل عدم الرضا بالإجابات المقدمة في هذا الباب كان من أقوي أسباب إنفصال جنوب السودان الذي آثر أن يؤسس هويته علي الإنتماء الإفريقي ، لأن الإتهامات ظلت تطارد المركز بتهميش الأطراف بل وبمحاولة فرض ثقافة معينة على بقية الأقاليم ..
مناسبة هذا التذكير التاريخي هي أن حروب السودان المستمرة منذ إستقلاله في العام 1956 وحتي الآن لابد وأن تكون قد أثرت على عناصر التماسك القومي والوجداني للأمة السودانية ، خاصة وأن الحركات المتمردة لم تخف نيتها تفكيك الدولة وهدمها ، فقد كان مشروع الدكتور جون قرنق قائما علي ( تحطيم الجيش السوداني) ..
أما حركات دارفور المتناسلة فقد اتخذت ( إسم تحرير السودان ) مسمي ثابتا لها ، وهو إختيار ينبئ عن حجم الغبن من هذه الدولة المركزية ، وبينما تجري الحروب العسكرية ظلت التعبئة الإعلامية التي تستند علي الكراهية وتعميق الإنقسام الإجتماعي خاصة بين دارفور كإقليم وبقية أجزاء البلاد تتمدد في الأفق الوطني وتزيد من الأحاسيس السالبة بالظلم والتهميش ….
أما العامل الرابع والأشد خطورة على إستمرار الدولة متماسكة هو وجود مشروع أجنبي ظل يسعي وبصورة معلنة لتقسيم السودان ، أو إبقائه دولة متخلفة فاشلة لا تقوي علي إستثمار مواردها والعمل علي نهضة إنسانها ، فبعد إنفصال جنوب السودان في العام 2011 تكشفت المؤامرة الغربية والجهود الإسرائيلية التي وقفت خلف ذلك الإنفصال ، واستبان حجم الدعم العسكري واللوجستي الذي تم تقديمه للإنفصاليين الجنوبيين طوال فترة تمردهم حتي تمكنوا من الإنفصال عن الشمال ، وهي التجربة نفسها التي تحاول ذات القوي إستنساخها في دارفور كما ورد في محاضرة آفي ديختر وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي في العام 2008 والتي ورد فيها ( سودان ضعيف ومجزأ وهش خير من سودان موحد وفاعل ) ، ولا شك أن الرؤية الإسرائيلية هذه تمثل المشترك بين كل القوي الغربية وإن اختلفت مصالحها وتقاطعت أجندتها .
وشكلت الفترة الإنتقالية الممتدة منذ سقوط نظام الإنقاذ في العام 2019 وإلي حين نشوب الحرب الحالية أكبر منفذ للتدخل الخارجي في الشأن السوداني والذي بلغ أوجه بإستقدام البعثة الأممية ( العضو المنتدب للمشروع الغربي في السودان ) لتقوم بعملية إعادة الهندسة الجغرافية للبلاد مدعومة بالقوي الغربية وبعض المحاور الإقليمية ، وللتدليل علي هذا الزعم يستوجب النظر إلي موقف القوي الغربية من الدعم السريع الذي ظلت تصفه بالمليشيا وتتهمه بإنتهاكات ترقي للجرائم ضد الإنسانية ، ولكنه وحين تمرد علي القوات المسلحة صار جزءا من أدوات الإستراتيجية الغربية الساعية لتفكيك الجيش السوداني الذي يمثل رمزية السودان القديم ذو النزعة المحافظة والرافضة للقيم الأخلاقية الغربية ، هذا التحالف بين الدوائر الغربية التي ظلت تكيد للسودان وبين بعض ناشطي قوي الحرية والتغيير ومؤخرا الدعم السريع لن توفر جهدا في هدم السودان تحت أي مبرر ، لأن الثابت هو التفكيك والهدم ، أما المتغير فهو المبررات فمرة كان الحديث عن السودان الجديد ، ومرة أخري محاربة الإسلاميين ، ومرة ثالثة تحت ستار الإصلاح الأمني والعسكري ..
السؤال المخيف هنا هو إلي أي مدي زمني وجغرافي يمكن أن تستمر وتمتد هذه الحرب ؟
مبعث الخوف هو أنه لو كانت هذه الحرب بالتجريد الذي يتصوره الإنسان العادي أنها بين الجيش وفصيل تمرد عليه لتم حسمها في أقرب فترة زمنية لا تؤثر كثيرا علي البلاد والعباد ، ولكن الحقيقة المؤلمة هي أن هذه الحرب في مستوي من مستوياتها تجري بين قوي دولية وإقليمية لها مصالح حقيقية وأجندة متقاطعة ، وكل من هذه القوي يحسب ألف حساب لإنتصار طرف علي الآخر ، فهناك الولايات المتحدة الامريكية صاحبة الكيد الطويل للسودان عبر جماعاتها الأيديولوجية وشركاتها العابرة للقارات ، وتتحفز اليوم لمحاصرة الوجود الروسي المتنامي في المنطقة ، وهناك فرنسا الجريحة في كبريائها الإمبراطوري في منطقة الساحل الإفريقي وهي تحاول إستعادة مجدها هناك ، أما بريطانيا فلا يبدو أنها قد نسيت ثأرها القديم للجنرال غوردون الذي قتل علي يد أنصار الدولة المهدية في العام 1885، ولا تزال تنظر للسودان كواحد من ميراثها الذي لا يجب أن تنازع فيه ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن القوي المتحالفة مع الدعم السريع ستوظف علاقاتها الخارجية المشبوهة لحرمان الجيش من تحقيق نصر حاسم في هذه المعركة بناء علي مصالحها الحزبية الضيقة ، وكلنا يتذكر التصريح الشهير لمبعوث الأمين العام فولكر بيرتس حين لاح تقدم للجيش في الأيام الأولي للحرب بأن الرابح في الحرب ستفرض عليه عقوبات دولية !!
وكلما طال أمد الحرب زادت مخاوف إنتقالها إلي أقاليم أخري خاصة في دارفور ، وزادت كذلك الآثار المدمرة للتدخل الخارجي وبناء خطوط إمداد للمتمردين تمكنهم من إعادة بناء نظام القيادة والسيطرة بشكل فعال ، كما أن الكلفة الإنسانية ستزيد وطأتها علي المواطنين الذين يعيشون حاليا في ظروف بالغة السوء ..
وبهذه الحسابات يطل السيناريو المخيف وهو أن تؤدي تدخلات الخارج وتداعيات الحرب والحملات السياسية ضد الجيش إلي زرع اليأس في نفوس السودانيين وإيصال الجيش لمرحلة لا يتحمل فيها كل هذه التحديات فيسقط السودان في فخ المجهول ، بينما لا يزال الأمل قائما في إستثمار الحشد الشعبي الكبير الداعم للجيش من تحقيق إنتصار عسكري علي المليشيا وإستعادة قوة الدولة وفرض الأمن والنظام ..
علي أن القيمة الكبري التي يجب أن يتذكرها السودانيون جميعا هي أن الإتفاق علي قواعد للعيش المشترك وتقديم التنازلات الكبري لصالح الوطن ، والتخفف من الحمولات الأيدولوجية الثقيلة في الخطاب السياسي نحو برامج واقعية وعملية هي التي ستعصمهم من المجهول الذي سيتأذي منه الجميع ، ولذلك فإن الحوار وحده هو القادر على بناء تلك المشتركات الوطنية ، وإذا سلمنا بضرورة تغيير السودان القديم فلا يجب علينا أن نفعل ذلك بالدماء والسلاح بل بالحسني والحوار إن كان هناك هناك مجال لكلمة الحسني في سودان اليوم ..
ياسر يوسف
الجزيرة نت