هل عاملت الأمم المتحدة السودان بتمييز مجحف؟

تحمل مسألة تعامل الأمم المتحدة مع حرب السودان بتمييز مجحف سؤالاً تقودنا الإجابة عنه مباشرة إلى واقع وطني مزر وأليم تفرق فيه أبناؤه “أيدي سبأ”، إذ أصبح من اليسير أن يهون أمرنا على المتعاطين معنا في الخارج، وبحيث أضحى رصيدنا الذي أحرزناه في الأمم المتحدة خلال عقودنا الزاهية التي تلت الاستقلال في عام 1956 يتآكل، فلا يعبأ حتى من حسبناهم يعرفون فضل السودان والسودانيين بما يقولون ويفعلون طالما كان الأمر يتعلق بنا وطناً ومواطنين مغلوبين على أمرهم.

التفريط من جانب والوحشية الممعنة ممن لم يعرفوا حدود ما أنزل الله من جانب آخر، أغريا بنا الأمم المتحدة و”شركاء السلام” و”أصدقاء السودان” لتطفيف الميزان وخسران الكيل، لقد تسرب إلينا العجز من تشرذمنا حتى غدا البأس بيننا أشد من بأسنا على غيرنا ممن لم يعرف حقيقة معضلتنا أو عرفها وأراد مفاقمتها، سيان!

لقد كنت أتوقع في ما يتعلق بالأمم المتحدة أن تجد قضايا السودان المستعصية ومشكلاته المزمنة تفهماً أوسع واعتباراً أكثر في عهد أمينها العام الحالي أنطونيو غوتيريش، وهو أكثر الأمناء العموم منذ إنشاء الأمم المتحدة معرفة بالسودان والسودانيين.

عندما كنت مندوباً للسودان في الأمم المتحدة حدثني عن لقاءاته منذ عقود الصادق المهدي عليه رحمة الله وغفرانه في منتديات الاشتراكية الدولية التي ابتدأها مستشار النمسا الأسبق برونو كرايسكي، فقد كانا، المهدي وغوتيريش، يشغل كل منهما منصب رئيس الوزراء في بلده، ثم حدثني عن تجربته في السنوات الأخيرة التي جمعته بقامات فكرية كما قال في الحكومة وفي المعارضة ثم عن فترة ولايته مفوضاً سامياً للاجئين التي امتدت لـ10 أعوام التي كان عدد كبار مسؤوليها من الجنسية السودانية في المرتبة الثانية بعد الجنسية الأميركية، كما حدثني عما وجده فيهم من ثقافة وكرم.

ثم إن الأمين العام غوتيريش ظل في منصبه هذا كما كان من قبل رجلاً ذا صدقية شديد التواضع شديد الاحترام لنفسه وللآخرين وظل في سلوكه يترجم مبدأ دولياً عزيزاً وهو أن الأمين العام للأمم المتحدة شخص لا يتطرق الشك إلى حياده. أقول ذلك وقد هالتني تلك الغلظة وهالني ذلك التمييز الذي وجده السودان في تعامله مع الأمم المتحدة في شأن الممثل الخاص للأمين العام في السودان ورئيس بعثة الأمم المتحدة لدى البلاد الدكتور فولكر بيرتس.

ليس صحيحاً أن البعثات السياسية الخاصة يجري تشكيلها تحت الفصل السادس من الميثاق. إنها جزء من عمليات السلام التي تطورت وتحورت داخل نظام الأمم المتحدة، إذ قال عنها أمين عام الأمم المتحدة في ستينيات القرن الماضي داج همرشولد “إنها تقع في الفصل السادس والنصف”، في إشارة لطيفة إلى أنها نظام عملي مستحدث في الأمم المتحدة.

وكان الغرض من البعثات السياسية الخاصة في فجر إنشاء المنظمة الدولية إنهاء الاستعمار، لذلك وقعت هذه البعثات تحت ولاية اللجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة المعنية بإنهاء الاستعمار. ونظراً إلى لطبيعة الخاصة لهذه البعثات التي تحولت بعد عهد إنهاء الاستعمار لتلعب دوراً مغايراً تماماً في معالجة النزاعات الداخلية التي استفحلت في أفريقيا بصفة خاصة، فقد كان أحد مطلوبات عمل هذه البعثات هو أن تنشأ بموافقة الدولة المعنية بل وبطلب منها، ومن هنا جاء مفهوم الملكية الوطنية لهذه البعثات وعملياتها.

بناء على ذلك فإن تشكيل البعثة بما في ذلك رئاستها وطبيعة الولاية التي تباشرها وحدودها ومدتها تعود قطعاً إلى الدولة المعنية، ويفهم من ذلك أن فرض وقسر رئاسة البعثة ابتداء وفي أية مرحلة وإلى انتهاء مدة ولايتها يتصادم تماماً مع نظام ونشأة وتاريخ وسوابق مهمة البعثات السياسية الخاصة.

أرجو أن يسمح لي القارئ الكريم بأن أعيد هنا ما ذكرته في مقالتي السابقة بأن حكومة السودان قدمت أولاً إلى الأمين العام طلباً ترجو فيه إنهاء مهمة الدكتور فولكر. لم يكن الاعتذار عن قبول الطلب هو الرد، بل أعرب المتحدث باسم الأمين العام عن صدمة الأمين العام وتأكيده بأن فولكر “يتمتع بثقته”. وهذا هو عين ما صرح به سابقاً المتحدث نفسه باسم الأمين العام نفسه في يناير (كانون الثاني) 2019 عندما أعلنت حكومة الصومال مباشرة رئيس البعثة السياسية الخاصة بالصومال نيكولاس هايسوم شخصاً غير مرغوب فيه وأمرته بمغادرة البلاد.

يتساوى إذاً رد الأمم المتحدة على مجرد طلب من دولة بإنهاء مهمة مبعوثها بقرار آخر من دولة أخرى بطرده وإبعاده، هذا هو الإجحاف! وعندما أعلنت حكومة السودان لاحقاً فولكر شخصاً غير مرغوب فيه أعلنت الأمم المتحدة أنه باق في منصبه وأنه يزاول مهماته المعتادة من نيروبي. في المقابل، وعند إبعاد وطرد ممثل الأمين العام في الصومال صدر بيان من المتحدث باسم الأمين العام يعبر فيه عن الأسف للخطوة التي اتخذتها مقديشو، ويضيف البيان “في الوقت ذاته، فإن الأمين العام يلتزم التزاماً كاملاً بضمان حاجات الشعب الصومالي التي تأتي على رأس أولويات الأمم المتحدة في البلاد. إن بعثة الأمم المتحدة يجب أن تكون قادرة على النهوض بواجباتها بأنجع الوسائل، لذلك فإن الأمين العام سيقوم في الوقت المناسب بتعيين ممثل جديد يقوم بمهمة رئاسة البعثة هناك”.

مرة أخرى يتبدى لنا عند المقارنة أن هذا هو الإجحاف في حق السودان في أشد صوره مضاضة.

أيضاً وفي يناير 2022 أدلى المتحدث نفسه باسم الأمين العام نفسه بتصريح أشار فيه إلى إعلان جمهورية كوسوفو أحد أعضاء بعثة الأمم المتحدة هناك شخصاً غير مرغوب فيه، وأبدى المتحدث ملاحظته أن السلطات لم تخاطب بعثة الأمم المتحدة في ذلك وأن الأمم المتحدة وبعثتها ستتخذ الإجراءات الضرورية لضمان خروج الشخص المطرود سالماً معافى من كوسوفو.

إن عدم التمييز هو من أهم قواعد القانون الدولي، ولطالما أثيرت تلك القاعدة في الجلسات المتتابعة للجنة البلد المستضيف في مقر الأمم المتحدة وفي مظان دولية أخرى كثيرة. يتناسب عدم التمسك بالمبادئ الجوهرية التي قامت عليها منظمة الأمم المتحدة وفق ميثاقها وعلى رأسها المساواة السيادية للدول وعدم تدخل الأمم المتحدة في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء – يتناسب طردياً مع تدني الأداء فيها منذ نشأتها في عام 1945 بسبب تحولها من منظمة تتشكل عضويتها من دول ذات سيادة إلى منظمة يهيمن عليها موظفوها.

على سبيل المثال فإن المبادئ الحاكمة المتعلقة بالأسرة وحمايتها التي أشير إليها إجمالاً في الميثاق بعبارة “احترام حقوق الإنسان” التي وجدت ترجمتها المجمع عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1947 والمعاهدات السبعة الرئيسة في مجال حقوق الإنسان تمت إطاحتها الآن من المنظمة وموظفيها وموظفي الوكالات الدولية التابعة لها. إن الإيمان برسالة منظمة الأمم المتحدة وبالتعددية الدولية باق، لأنه إيمان بما تضمنه الميثاق والمعاهدات الرئيسة الحاكمة التي يجري التعدي عليها باستمرار.

وبالعودة لإعلان “فولكر” شخصاً غير مرغوب فيه، فإن القرار السوداني لم يعتمد على اتفاق فيينا للعلاقات الدبلوماسية ومادته التاسعة إذ لم يأت على ذكرها وإنما ذكر العبارة التي وردت في هذه المادة الخاصة بإعلان رئيس البعثة الدبلوماسية أو أحد أعضائها “شخصاً غير مرغوب فيه”. ولأن المادة التاسعة أتت على سبيل التدوين لقاعدة من قواعد القانون العرفي الدولي فإنه لا مانع ولا حجر على استعمال العبارة ذاته بناء على تلك القواعد التي نشير في شأنها إلى النقاط المهمة التالية علها تزيل اللبس المتعلق باستخدامها.

أولاً هناك فارق زمني بين إبرام اتفاق امتيازات وحصانات الأمم المتحدة لعام 1946 واتفاق فيينا للعلاقات الدولية لعام 1961، مقداره 15 عاماً. ولأن الاتفاقين معاً اعتمدا نصوص كل منهما على “تدوين” مبادئ القانون العرفي الدولي فإنهما صدرا عن منبع واحد. وإذا كان التعويل في إعلان أن أي شخص ذي صفة غير مرغوب فيه بناء على اتفاق فيينا لعام 1961 هو المادة التاسعة منه فإن التعويل على إعلان أي شخص ذي صفة بناء على اتفاق 1946 هو القانون الدولي العرفي. ولقد بين وأوضح ذلك اتفاق فيينا في فقرته الديباجية الأخيرة “بأن قواعد القانون العرفي الدولي التي لم ترد صراحة فيها تظل سارية وحاكمة”، وهذه إشارة موفقة لقاعدة مطلقة صالحة لجميع الاتفاقات الدولية.

ثانياً من نافلة القول إن الاتفاقين لم يقوما بتضمين كل مبادئ القانون العرفي الدولي عن طريق التدوين في العلاقات الدبلوماسية بين الدول وفي العلاقات بين الأمم المتحدة والدول الأعضاء فيها، فالاتفاقان معنيان معاً بامتيازات وحصانات المبعوثين الدبلوماسيين الدوليين والمبعوثين الدبلوماسيين لفرادى الدول في ما بينها، والامتيازات والحصانات لا تعدو كونها جانباً من جوانب القانون الدولي ومبادئه المتعلقة بالعلاقات في مضمونها الأوسع.

ثالثاً إن الامتيازات والحصانات كما جاء في الاتفاقين ترد لصالح القيام بالمهمات على وجه مستقل ومن دون تدخل من سلطات الدولة المستضيفة وبالكفاءة اللازمة في أراضي الدولة المستضيفة وأثناء وجود الدبلوماسيين والمبعوثين في إقليمها، لذلك فإن الحصانة من الأمر بالمغادرة أو طلب المغادرة لسبب من الأسباب لا وجود لها.

رابعاً إذا كانت إحدى مواد اتفاق عام 1946 أعطت الأمين العام للأمم المتحدة حق رفع الحصانة في حالات معينة، فما حق الدولة المعنية وواجبها تجاه شعبها وتجاه سيادة شعبها غير أن تطلب منه المغادرة بعد أن تكون استفرغت جهدها ووسعها في طلب تدخل الأمين العام لسحب مبعوثه أو ممثله؟

أخيراً وفي إشارة بليغة يقول الباحث البريطاني ألكس دي وال في مقالته الأخيرة “السودان ينزف حتى الموت”، “إن من أهم مبادئ تسوية النزاعات ألا يكون الوسيط نفسه مشكلة وأن الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي أخلتا بهذا المبدأ”، ثم إن المبدأ القانوني وكذلك الأمر المنطقي الخاص برد الحجة أو “الإغلاق الحكمي” يمنع بوضوح الفاعل أو المتصرف من إتيان ما أتى بنقيضه من قبل. وأوردت مثالين فقط من جملة من الأمثلة السابقة للأمين العام المناقضة تماماً لموقفه الحالي من قرار السودان في شأن فولكر بيرتس.

عمر دهب
*المندوب السابق للسودان لدى الأمم المتحدة

نقلا عن
اندبندنت عربية

Exit mobile version