فى صباح يوم عمل طبيعى من أيام العمل الشاقة فى بعثة مصر لدى الأمم المتحدة بنيويورك فى مايو عام ٢٠٠٥، استيقظت على اتصال هاتفى من وزير الخارجية آنذاك السيد أحمد أبو الغيط، يخطرنى بأنه تقرر إلحاقى بمكتب وزير الخارجية فور انتهاء خدمتى التى استمرت لخمس سنوات بالولايات المتحدة. وقد تلقيت الاتصال بفرحة شديدة لكون حلم العمل بمكتب وزير خارجية مصر يراود كل دبلوماسى شاب باعتباره المدرسة التى يتعلم فيها كيف يُصنع قرار السياسة الخارجية، وكيف تُصاغ التقديرات والتوصيات، ويطلع فى هذا الموقع على التفاصيل الخاصة بالملف الذى يتولى متابعته. وكان السيد أحمد أبو الغيط قبل ذلك التاريخ بعام واحد، هو مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة، حيث شرفت بالعمل المباشر تحت قيادته لمدة عامين. ومن هنا نشأت علاقة تسمح بقيام وزير الخارجية بالاتصال بشكل مباشر بدبلوماسى صغير مثلى فى مقتبل مساره الوظيفى ليخطره بهذا الاختيار. وما كان لى إلا أن انفرجت أساريرى وسعدت سعادة عارمة بهذه النقلة المهمة والمؤثرة فى مسارى الوظيفى. وكان طبيعيا أن أسأل السيد الوزير عن الملفات التى قرر أن أتولى مسئوليتها، متوقعاً أن تكون بطبيعة الحال ذات الملفات التى كنت مسئولاً عنها إبان عملى بوفد مصر لدى الأمم المتحدة، وهى ملفات الشرق الأوسط، باعتبارها الملفات التى اكتسبت خبرةً لابأس بها فى متابعتها فى مجلس الأمن والجمعية العامة، لاسيما إبان فترة غزو العراق عام ٢٠٠3. وجاء وقع المفاجأة شديدا حينما أخطرنى معالى الوزير بأننى سوف أكون مسئولاً عن ملف السودان والعلاقات مع دول حوض النيل وشرق إفريقيا وملف مياه النيل: تحت أمرك يا فندم… بس ازاى؟! أنا لست متخصصاً فى هذه الموضوعات، والمفترض أن عضو مكتب حضرتك يكون الأكثر إلماماً بتفاصيل الملفات التى يتولى متابعتها… وهذه هى الحقيقة كى يحسن تقييم الأحداث ورفع المقترحات والتوصيات. وكان رد الوزير واضحاً ولا رجعة فيه: أنا عارف يا أحمد ان دا مش مجال تخصصك، ولكن انت دبلوماسى شاطر يا ولد وقادر على استيعاب هذه الموضوعات فى اسرع وقت… أنا عاوزك معايا. ومنذ هذه اللحظة، وحتى اليوم، بدأت رحلتى الخاصة مع السودان وشعبه, الأشقاء فى جنوب الوادى. ربما لا يتسع المقام هنا للحديث عن الكثير من التفاصيل المرتبطة بسبر أغوار تلك الملفات المهمة التى توليت مسئوليتها، وكيف تحديت نفسى بأن افهم واستوعب هذا السيل من المعلومات، واتعرف عن قرب على الشخصيات، من هم فى الحكم والمسئولية، ومن اختاروا أن ينضموا لحركات التمرد فى دارفور، والذين كانت مصر تعمل جاهدة على الإصلاح بينهم وبين الحكومة السودانية، وكذا متمردو شرق السودان، وقيادات الحركة الشعبية فى الجنوب، وفى النيل الأزرق وغرب كردفان… أسماء لا حصر لها، وقبائل عديدة، متشعبة فى انتماءاتها وأعراقها. وامتد العمل ليل نهار لمحاولة فهم واستيعاب التفاعلات السياسة فى السودان. طوال تلك الرحلة الطويلة، ظل السودان دائما فى وجدانى, أحبه وأحب شعبه النقى المسالم. وأتذكر هنا أن أول زيارة لى للخرطوم كانت عام ٢٠٠٥، وكانت أول رحلة لى إلى دولة إفريقية…. وكان شعورى حينما وطئت قدماى مطار الخرطوم، وكأننى فى إحدى مدن جنوب مصر. نظرت إلى نهر النيل من شرفة فندق جراند فيلا العتيق بالخرطوم وشعرت أننى أمام كورنيش النيل بالمعادى….. ذهبت الى سوق أم درمان وإذا بذكريات حوارى وأُزقة القاهرة و أسوان وخان الخليلى تدهم ذاكرتى… وجلست مساء مع أعضاء السفارة فى حديقة النادى القبطى لأرى من حولى أسرا وعائلات لا يميزها أى شيء عن شبيهاتها فى مصر…. روح الفكاهة و التلقائية والبساطة هى السمة الغالبة، ورأيت عمقاً ثقافياً ملحوظاً وارستقراطية فكرية لا تغفلها عين. والتقيت كذلك قيادات الأحزاب السودانية التقليدية وممثلى القوى السياسية، الكل يتحدث عن خصوصية العلاقات السودانية/ المصرية، وشعبى وادى النيل… قد نختلف فى مراحل تاريخية ما، قد تتباين المواقف والأولويات، ولكن الثابت الذى لا يتغير هو ذلك العشق الدفين والعميق بين الشعبين، وكأنهما روحان فى جسد واحد. إننى أسرد هذا الحديث لأنقل إلى القارئ ذلك الشعور الحزين الذى ينتاب كل مصرى عرف السودان والسودانيين عن قرب، حينما يشاهد تلك الصور الدامية والتخريب الذى يعم جنبات الخرطوم وضواحيها جراء الصراع الجارى هناك. لقد كنت شاهد عيان على أوضاع إنسانية صعبة فى غرب السودان، وشرقها، وفى الجنوب، ولكن لم أشك للحظة فى قدرة هذا الشعب العظيم على لملمة جنباته ومداواة جروحه بنفسه، وبكل ما يملكه من عقول نافذه وطاقات قادرة على طى صفحات الخلاف.ولكن ما نشهده اليوم من تدمير ونزوح ومعاناة، هو شيء آخر!! دمار ينال الجميع… لايفرق بين شمالى وجنوبى، بين من هو من شرق السودان أو غربها، مدنى أو عسكرى…دمار يطال المنشآت العامة والمدارس والمستشفيات، يقضى على الأخضر واليابس من المقدرات والأبدان والنفوس على حد السواء. ومن هنا، تأسس الموقف المصرى الرصين منذ بداية الأزمة، على ضرورة وقف إطلاق النار، وأولوية توفير الحماية للمدنيين، و تغليب لغة الحوار. فتحت مصر أبوابها لأشقائها السودانيين دون تمييز، واحتضنت الأسر المصرية فى شمال الوادى إخوانهم وأخواتهم من جنوب الوادى لحين انتهاء الأزمة. كلمة أخيرة..على الرغم مما نعلمه من وجود اختلافات وخلافات بين القوى السياسية فى السودان سابقة لاندلاع الأزمة الأخيرة، إلا أن الملاحظ أن هناك إجماعاً ترسخ اليوم على ضرورة وقف هذا الصراع فى أسرع وقت. لا أرى نزاعاً قبلياً أو عرقياً وراء هذه الحرب، لا أرى خلافاً بين المركز والأطراف حول تقاسم السلطة والثروة مثلما هو الحال فى معظم فترات التوتر فى السودان..ما نراه فقط هو تدمير لمقدرات ومؤسسات دولة، وإرادة وسريرة شعب قريب جداً من وجدان كل مصرى.
> السفير. أحمد أبو زيد : المتحدث الرسمى ومدير إدارة الدبلوماسية العامة بوزارة الخارجية
الأهرام اليومي