خرزات السبحة المتناثرة The Scattered Beads
خرزات السبحة المتناثرة The Scattered Beads
=======================
عندما بدأت الحرب كانت هناك قوى داخلية وخارجية كثيرة تنتظر نتائجها منذ اليوم الأول. كان المأمول أن تغير المعادلة في السودان والاقليم. ولكن التحرك فشل تماما في إحراز الهدف السياسي المأمول. وبدأت القوى الدولية الهرولة من أجل التأثير في المشهد السوداني. فلم يمض اسبوعان على بداية القتال في الخرطوم الا واجتمع مجلس الأمن في جلسة طارئة حول السودان في 27 أبريل 2023م، كان من المقرر لها أن تصدر بيان لوضع السودان تحت البند السابع وتدويل القضية فورا. إلا أن القرار لم يمر.
لتفهم الصورة يمكن المقارنة بوضع أثيوبيا وحرب التقراي فيها التي اندلعت أعمال العنف والقتال فيها في اقليم التقراي في نوفمبر 2020م ووصلت أعداد الضحايا لما يقرب من نصف المليون مواطن اثيوبي ولم يتم تناول قضيتها الا من خلال الاتحاد الافريقي وبعد مضي قرابة العام ونصف على اندلاع الحرب قبل التوصل لهدنة لوقف اطلاق النار في مارس 2022م سرعان ما تم انتهاكها في أغسطس من نفس العام.
ورفضت أثيوبيا أي وساطة دولية أو تدخل إلا أن أعلنت جبهة التقراي الاستسلام ونيتها في التفاوض في خطاب أرسلته للأمم المتحدة في السابع من سبتمبر 2022م. اتفاقية السلام كانت واضحة جدا حيث ينص الاتفاق على أنه يجب السماح للحكومة الفيدرالية الإثيوبية بإعادة تأسيس السلطة في منطقة تيغراي، بما في ذلك في العاصمة ميكيلي، وأن “قوة الدفاع الوطني الإثيوبية وغيرها من المؤسسات الفيدرالية ذات الصلة يجب أن تُتاح لها دخول المدينة بطريقة سرعية وسلسة وسلمية ومنسقة. وهذا هو الهدف السياسي الذي اندلعت من أجله الحرب وباذعان قوات التقراي تم وقف الحرب تماما.
بعدما فشلت جلسة الأمن الدولي في تدويل قضية السودان، سرعان ما ظهر منبر جدة للتفاوض برعاية سعودية أمريكية. والواقع أن الموقف الأمريكي متذبذب جدا حيال قضية السودان. فلا يخفى على أحد التداعيات الأمنية الخطيرة التي سيشكلها انتصار الدعم السريع على القوات المسلحة وهناك مشروع اقليمي برعاية دولة خليجية وقوات فاغنر الروسية لتكوين جيش مماثل للدعم السريع من أمراء الحرب في منطقة الساحل والصحراء قوامه مليون مقاتل. كان انتصار الدعم السريع وتشكيل هذا الجيش العرمرم من المقاتلين سيشكل انهيارا لكل المنظومة الاقليمية ويهدد بشكل مباشر دولة مصر وكل دول شمال أفريقيا ودول جوارها في الحزام الفرنسي.
لهذا جاء منبر جدة متواضعا جدا في طرح قضايا تتعلق فقط بالترتيبات الأمنية والمعونات الانسانية وحماية المدنيين. هذا المنبر على تواضع سقفه إلا أنه أوقف حملات التدويل للقضية السودانية وذلك رغم محاولات بريطانيا تحريك مجلس السلم والأمن الأفريقي بعد شهر من جلسة مجلس الأمن لاصدار قرارات تمكن من التسلل من الباب الخلفي للأحداث في السودان ويبدو أن الأمر فشل مع البيان العام الذي لا يحمل خطوات عملية حول الصراع.
يقوم منبر جدة على خطوات متصاعدة للوصول إلى السلام ووقف اطلاق النار. ورغم أن وفد القوات المسلحة ووفد الدعم السريع لم يجلسا على طاولة واحدة حتى الآن في اشارة للعرف الدبلوماسي الذي يعني عدم الاعتراف، إلا أن المنبر نجح في توقيع اتفاق المباديء الذي جاء عاما ويحمل بنود منقولة من القانون الدولي الانساني وخصوصا بروتوكول عام 1977م الذي يشير لحماية المدنيين في النزاعات المسلحة. اتفاق المباديء لم يشر لوقف اطلاق النار وانما تحدث عن جولة قادمة للتفاوض حوله.
في الاتفاق الثاني تم التوقيع على هدنة مؤقتة كل بنودها مأخوذة من اتفاق سابق في وقف العدائيات بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية بجبال النوبة في ديسمبر 2001م. كانت أيضا تشمل وقف الطيران ووقف الامداد ووقف حركة القوات وتختلف عن اتفاق جدة في أنها كانت من حركة سياسية مطلبية وكانت مناطق الحركة الشعبية خارج المدن ولا يشكل وجودها تهديد لحياة المدنيين. حركة الدعم السريع في المقابل ليست حركة سياسية ولا مطلبية وهي مجرد قوات عسكرية تحاول الاستيلاء على السلطة وفرض الأمر الواقع بقوة السلاح. بالاضافة الى وجودها في المرافق الحيوية والمستشفيات وبيوت المواطنين في الخرطوم في تهديد واضح على حياتهم بفقدانهم للخدمات الضرورية او وقوعهم في مصيدة النيران.
نصت الاتفاقية بوضوح أن الدعم السريع يجب أن يخرج من الاحياء السكنية والمرافق الحيوية والمستشفيات ووضعت إلية لمراقبة وقف اطلاق النار ولكنها سكتت عن الآلية التي سيتم عبرها خروج الدعم السريع من هذه الأماكن. وتركت التفاصيل للوثبة الثانية باعتبار أن المنبر نفسه يقوم على نجاح الخطوة الواحدة ثم البناء عليها.
كيف سيتم وضع آلية التفاوض على الخروج من الاحياء السكنية والمرافق الحيوية؟ العرف التفاوضي يقضي باستمرار وقف اطلاق النار وتحديد مسار لتحرك قوات الدعم السريع مراقب بواسطة الالية المكونة من الميسرين ثم تحديد معسكر لتجمع هذه القوات لا يكون في معسكراتها القديمة (سترفض القوات المسلحة) ولا يكون تحت نيران الجيش (سترفض قوات الدعم السريع) يسمى هذا المكان في العرف التفاوضي (confined camp) يكون بمراقبة آلية الميسرين أو بحماية قوات أممية في بعض الحالات. ويبدو أن التفاوض أثناء الهدنة قد تعثر للوصول لاتفاق حول هذه الالية نسبة لعشم قوات الدعم السريع في نجاح هجومها المتزامن على المهندسين ووادي سيدنا والمدرعات في الساعة الأولى من سريان الهدنة.
والسؤال هنا: هل يمكن نجاح منبر جدة في الوصول إلى اتفاق حول آلية خروج الدعم السريع من الأحياء السكنية والمرافق الحيوية والمستشفيات؟
نجيب على ذلك في النقاط التالية:
1. الهدف السياسي للحرب بالنسبة للجيش هو عودة القيادة والسيطرة وإلغاء أي مظهر لتعدد الجيوش في الدولة.
2. الهدف السياسي للدعم السريع هو استلام السلطة ووضع الجيش تحت تعليماته المباشرة.
3. فشل الهدف السياسي للدعم السريع من الاسبوع الأول وفشل آخر هدف عسكري لقواته في الهجوم المتزامن على قاعدة وادي سيدنا والمدرعات والمهندسين.
4. الدعم السريع كانت خطته الولى هي الانتشار في الأحياء وتحويلها لأرض قتل مع قناصة في أسطح البنايات وانتظار الجيش. وعندما لم يهاجمهم الجيش اكتشفوا خطأهم الاستراتيجي وحاولوا التعويض بالهجوم على الأسلحة الفنية للجيش وفشلوا فيها ثم الهجوم المتزامن الأخير الذي فشل أيضا، مما أضطرهم للعودة لاستراتيجيتهم الأولى بتحويل الأحياء السكنية لأرض قتل وانتظار الجيش.
5. ما زال الدعم السريع يظن أنه سينجح في الانتصار على الجيش اذا جره للهجوم عليه في وسط الأحياء السكنية نسبة لأن الجيش لن يستطيع التضحية بالسكان.
6. النجاح الاستراتيجي للدعم السريع هو في نقل المعركة للخرطوم وأي خروج من الأحياء السكنية إلى خارج الخرطوم يعني انتهاء الحرب فعليا.
7. في ظل عدم تسليم الدعم السريع بنهاية الحرب والاستسلام والموافقة على العودة لوحدة القيادة والسيطرة للجيش فلن يوافقوا أبدا مهما كانت الضغوط عليهم للخروج من الخرطوم وسيكون سقف تفاوضهم في كل مرة عاليا مهما كان يأسهم من كسب الحرب.
8. لا مفر من المعركة النهائية.
د. أسامة عيدروس
30 مايو 2023م.
(أعذرونا على الأخطاء الاملائية والنحوية وعلى طول المقال. ونستسمحكم في الغياب إلى حين اعلان ساعة الصفر للمعركة العسكرية)