ليس أكثر استنزافا للدم من أن تعمد “العسكريتاريا” الحاكمة في أيما بلد إلى ممارسة لعبة القوة والغطرسة في مواجهة بعضها البعض الآخر. وليس غريبا أن تحدُث هذه الممارسة في السودان، البلد الذي نُكب بحكم العسكر أكثر من عشر مرّات منذ الاستقلال، وبطلا اللعبة هذه المرّة هما القائد العام للقوات المسلحة الذي تتبعه قوات الجيش النظامي، عبد الفتاح البرهان، وزعيم مليشيا الجنجويد التي تحوّلت إلى جيش موازٍ اتخذ اسم “قوات الدعم السريع” محمد حمدان دقلو (حميدتي). وكان هذان الزعيمان قد تقاسما السطوة والنفوذ والامتيازات، إذ أصبح الأول رئيسا للبلاد، والثاني نائبا له. وسيطرا على قطاعات تجارية واقتصادية لتمويل قواتهما ولمنفعتهما الخاصة، ثم كان أن اختلفا على أكثر من شأن، ووصلت العلاقة بينهما إلى مواجهة مباشرة جعلت كلا منهما يكايد صاحبه، ويحاول أن يسبقه في الفوز بالجائزة الكبرى، الهيمنة الكاملة على السلطة والمال والقرار، خصوصا بعد إعلان “الاتفاق الإطاري” مع القوى المدنية التي كانت طوال الفترة الماضية تُغالب الوقت، وتسعى إلى تشكيل حكومة انتقالية توحّد قوات الجيش والدعم السريع، وتضعهما تحت إشراف الحكومة.
وفي انتظار إنجاز ما اتُفق عليه، حدث ما لم يكن في الحسبان، إذ حرّك حميدتي قواته للسيطرة على السلطة، وشرع في تنفيذ الفصل الأكثر دمويةً في مواجهة صنوه اللدود البرهان. وساعيا، على ما يبدو، إلى إرباك الوضع وإجهاض الاتفاقات المعلنة. وردّ البرهان على حميدتي بتحرّك مضادّ رفع درجة الخطر في الشارع السوداني إلى أقصاها، فيما وجدت القوى المدنية أن خطوة قيام حكم انتقالي أصبحت في حكم المنسية، أو ربما مُلغاة، بحكم ما استجدّ على الأرض من وقائع، ولم يعد أمامها سوى الدعوة إلى وقف نزيف الدم، والطلب من الزعيمين النافذين التصالح من جديد، والعودة إلى نقطة الصفر. كذلك طالبت كومة النداءات الصادرة من الشرق والغرب بوقف القتال، والتفاوض والحوار من أجل حقن الدماء البريئة، لكن ذلك كله لم يلق استجابة مع إعلان البرهان “أن لا تفاوض، ولا حوار، قبل حل مليشيا حميدتي”، وإشارة حميدتي نفسه: “لا نعلم متى تنتهي (هذه المعركة)، وكيف ستنتهي”، يكونان بذلك قد قطعا خطّ الرجعة، وقرّرا المضي في اللعبة الماكرة، وإبقاء السلاح في اليد، ربما إلى أن يمكن لأحدهما أن ينقضّ على الآخر، ويلقي به خارج الحلبة. أما شعب السودان المغلوب على أمره، فقد وجد نفسه، وسط هذه التداعيات، محشورا بين الزعيمين، ولا حول له ولا قوّة.
ونظرة عابرة على المشاهد الأولى لتراجيديا الدم التي خرجت من الخرطوم في الأيام الأولى للصراع أفادتنا بسقوط عشرات القتلى ومئات الإصابات من الجانبين المتحاربين، ومن مدنيين كثيرين أيضا، وضعتهم أقدارهم وسط الرصاص، وأنذرتنا أن استمرار “المنازلة” على هذا النحو سوف تكون حصيلته مزيداً من الخسائر في بلدٍ منكوبٍ يعاني أصلا من انهيار اقتصاده، وتصاعد العنف بين قبائله. وقد ألحقت “العسكرتاريا” به من الشرور والخطايا ما يذكّرنا بصندوق باندورا المروي عنه في الميثولوجيا الإغريقية. ومع ذلك هي مصرّة على الإمساك بتلابيبه إلى أبد الدهر!
ألحقت “العسكريتاريا” بالسودان من الشرور والخطايا ما يذكّرنا بصندوق “باندورا” المروي عنه في الميثولوجيا الإغريقية
ومع كل ما سجّلته تلك الوقائع ومشاهد الدم، ثمّة أمل في أن تتواصل الضغوط الإقليمية والدولية لتجبر الزعيمين اللدودين اللذين يغامران بمصائر أبناء جلدتهما على وقف القتال، والقبول بالتفاوض والحوار، خصوصا إذا ما أدركا أنهما سيكونان من بين الخاسرين، وربما تدفعهما المخاوف المتبادلة إلى أن يجنحا إلى التفاهم في آخر المطاف، ويتفقا على خطّة ما لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وبالطبع، يحتاج ذلك إلى وقت لاختراع حلولٍ ذات طابع استثنائي، قد يكون من بينها القبول بوجود قوة حفظ سلام عربية تؤسّس لفرض الأمن، وتعمل على قيام حكومة انتقالية تقيّد دور العسكر، وتحدّ من تدخّلهم في السياسة. لكن، يا ترى، هل يقبل البرهان وحميدتي بحلّ من هذه “القماشة”، خصوصا أن كلا منهما يعتقد أن لديه الوقت الكافي لاستمرار اللعبة، وانتظار نتيجة لصالحه، حتى لو أدّى ذلك إلى إراقة مزيد من الدم، فيما ليست لدى الوسطاء ودعاة التفاوض والحوار قوة إلزام يمكن فرضها، وكل ما يمتلكونه هو الساعات التي يراقبون بها الوقت الذي ربما يطول إلى ما شاء الله!
بالمختصر المفيد، ليس لأشقائنا في السودان سوى أن يكابدوا أكثر، كي يصلوا إلى اليوم الذي يشبه ما قال عنه صانع التراجيديا اليوناني أسخيلوس إنه يأتي ليزيل الألم، ويفرض الحكمة، عندها يكونون قد شرعوا يتنفّسون الصعداء.
عبد اللطيف السعدون
العربي الجديد