تحل اليوم الثلاثاء الذكرى الرابعة لسقوط نظام الرئيس السوداني عمر البشير في ثورة شعبية لا تزال تتلاطمها أمواج العسكر وخلافات المدنيين.
ويستعيد السودانيون، اليوم، الذكريات الخالدة في تاريخهم، حينما اندلعت احتجاجات مطلبية في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2018 سرعان ما التقط قفّازها “تجمع المهنيين السودانيين”، وهو جسم يضم عدداً من الأجسام النقابية، وحوّلها إلى ثورة عمّت كل المدن والبلدات تحت شعار “الحرية والسلام والعدالة” وتوّج حراكها الثوري باعتصام شعبي في محيط قيادة الجيش السوداني في 6 إبريل/نيسان 2019 نجح في الوصول إلى ذلك المحيط عقب مقتل نحو 90 من المشاركين في الاحتجاجات الشعبية خلال أكثر من 5 أشهر.
وما إن أكمل الاعتصام يومه الخامس، حتى تبنت اللجنة الأمنية للنظام برئاسة النائب الأول لرئيس الجمهورية الفريق أول عوض ابن عوف، قرار إطاحة الرئيس عمر البشير وحكومته في 11 إبريل 2019، واستلام السلطة تحت مزاعم الانحياز لمطالب الثورة الشعبية، وتشكل مجلس عسكري برئاسة ابن عوف لم يصمد يومين لرفض الثوار له باعتباره جزءاً من النظام المنحل.
عقب استقالة ابن عوف، كُون مجلس عسكري جديد، برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان والذي كان يعمل في ذلك الوقت مفتشاً عاماً للجيش، كما عين قائد قوات “الدعم السريع” الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائباً لرئيس المجلس العسكري، فقبل الشارع استناداً على معلومات عن مساندة كل من البرهان وحميدتي للثورة ولعبهما أدواراً مهمة على صعد انحياز المؤسسة العسكرية للمطالب الشعبية، فيما بقي اعتصام محيط الجيش في مكانه حراسة للثورة من أي ردة.
أول غدر من العسكر
في 3 يونيو/حزيران 2019 تلقت الثورة ضربة موجعة من العسكر المنحازين مجازاً للثورة، بفضّ اعتصام محيط قيادة الجيش بكلفة دماء بلغت أكثر من 120 قتيلاً ومئات الجرحى والمصابين وعشرات المفقودين.
عمر زهران: نظام البشير سقط شعبياً ومجتمعياً لكن كوادره ظلّت موجودة في المؤسسات كما ظلّت الدولة الموازية قائمة
غير أن الثورة استجمعت قواها والتقطت أنفاسها واستفاقت من صدمة الغدر والخيانة ونظّمت نفسها من جديد بمواكب وتظاهرات وإضرابات أرغمت المجلس العسكري على الانحناء للعاصفة والدخول في مفاوضات مع المدنيين وممثلهم، تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير، والتوقيع معه على إعلان سياسي ووثيقة دستورية نصّت على شراكة بين الطرفين لإدارة مرحلة انتقالية مدتها سنتان تجرى بعدها انتخابات عامة في البلاد.
وبالفعل، في سبتمبر/ أيلول 2019، تكونت مؤسسات الحكومة الانتقالية من مجلس سيادة مدني عسكري، ومجلس وزراء رأسه الخبير الاقتصادي عبدالله حمدوك والغلبة المطلقة داخل المجلس لصالح المدنيين. لكن حكومة حمدوك تعثرت في بدايتها خصوصاً في مجالات الاقتصاد والأمن والعدالة، وأضعفها كذلك خلافات وانقسامات قوى الثورة التي شكلت الحكومة.
ومع مرور الوقت، أحدثت الحكومة اختراقات عديدة على صُعد الاصلاحات الاقتصادية والعلاقات الخارجية، فانقض عليها العسكر كلياً بانقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
انتفضت الشوارع من جديد رفضاً للانقلاب العسكري من يومه الأول، وقبل أن يتلو قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان بيانه الأول، واستمرت المقاومة لتاريخ اليوم، ولم تتوقف التظاهرات والمواكب المطالبة بتنحي العسكر ومحاسبتهم على قتل الشهداء الذين بلغ عددهم أكثر من 120 في حصيلة ما بعد الانقلاب وحدها.
ونتيجة لتلك المقاومة، فشل العسكر في تكوين حكومة تنفيذية وفي مواجهة العزلة الداخلية والخارجية، وعجزوا عن المحافظة على تماسك صفهم الانقلابي بظهور الخلافات بين الجيش و”الدعم السريع”، أو الخلاف بين البرهان وحميدتي حول النفوذ في حقيقته المطلقة، فتراجعوا عن مخططاتهم، وبدأوا رحلة البحث عن تسوية مع المدنيين مرة جديدة. وكان لهم ما أرادوا بتوقيعهم على اتفاق إطاري مبدئي في 5 ديسمبر الماضي مع مجموعة من الأحزاب بما فيهم أحزاب بقوى الحرية والتغيير، ينص على إبعاد المؤسسة العسكرية عن السلطة والمشاركة السياسية وتشكيل حكومة مدنية كاملة، فيما تتوالى الجهود لإكمال التسوية المحظية برعاية الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والسعودية والإمارات والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية “إيغاد” لإكمال خطوة الإطاري بالتوقيع على الاتفاق النهائي والدستور الانتقالي والشروع في تشكيل مؤسسات الحكم الانتقالي.
وتبدو القوى المدنية الأكثر حماسة لتلك التسوية التي ترفض تسميتها بهذا الاسم وتطلق عليها اسم “العملية السياسية”، وتراهن عليها لاستعادة التحول الديمقراطي والمدني في البلاد وإكمال مشوار الثورة في التغيير الشامل. في المقابل، تُثار شكوك جدية حول مصداقية العسكر، ورغبتهم في تسليم السلطة، ودعمهم للتحول الديمقراطي وتحقيق شعارات الثورة الشعبية.
استقلال ثانٍ أم سلسلة إخفاقات؟
ويقول المتحدث باسم قوى إعلان الحرية والتغيير، شهاب إبراهيم، إن الثورة وفي جميع مراحلها مثلت استقلالاً ثانياً للدولة السودانية بعد استقلالها الأول في عام 1956.
ويشير إبراهيم في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أن سقوط نظام البشير أتاح الفرصة لحدوث تغيير وفق مشروع عبّرت عنه الثورة بأكثر من هدف في قضايا متعلقة بالعدالة الانتقالية وقضايا إصلاح المؤسسة العسكرية التي ظلّت طويلاً تقطع الطريق أمام أي تحول ديمقراطي مدني.
وينفي المتحدث حدوث انقسامات بين قوى الثورة، واصفاً كل ما جرى بينها بأنه تباين في استخدام الوسائل والأدوات لتحقيق وتنفيذ مشروع التغيير الشامل ليس على مستوى السلطة، إنما لإحداث تغيير عميق في كل مؤسسات الدولة، والمكونات المدنية. وبرأيه، فإن هذا التباين يُحمَد ويصنّف ضمن عملية التعددية الديمقراطية ويحسب لها وليس خصماً عليها.
ويرفض إبراهيم تقييم الشراكة السابقة بين العسكر والمدنيين كخطأ وحده بعيداً عن سياقاته الأخرى وبعيداً عن أخطاء أخرى استراتيجية، مشيراً إلى أنه أمام الجميع الفرصة لتصحيحها ومنها وضعية العسكر في المشهد السياسي وإبعاده عنه تماماً. ووفقاً لإبراهيم، فإن تحول هذه النقطة إلى تحد ومعيق للتوصل لاتفاق نهائي يثبت ذلك، ويثبت كذلك أهمية إصلاح المؤسسة العسكرية وفرز مهامها من غير أن تكون جزءاً فاعلاً في العملية السياسية.
ويرى المتحدث باسم قوى إعلان الحرية والتغيير أن العملية السياسية الحالية في السودان صُمّم مسارها في الأصل لاستعادة مسار التحول المدني الديمقراطي المدني وزخم الثورة واستئناف تحقيق شعاراتها وصولاً إلى نقطة الانتخابات العامة، على أن تتوالى عمليات التغيير بعد ذلك. ويلفت إبراهيم إلى وجود ملفات تحتاج إلى أكثر من دورة انتخابية، ما يتطلب أن تكون الأحزاب السياسية أكثر وعياً.
حسام حيدر، أحد شباب الثورة، وشغل في حكومتها منصب الأمين العام لمجلس الصحافة والمطبوعات، يعدد لـ”العربي الجديد” ما أنجزته الثورة قبل انقلاب 25 أكتوبر، “وأولها انعتاق السودانيين والسودانيات من الديكتاتورية والأنظمة الشمولية حيث أصبحوا أكثر إرادة وسعياً لبناء دولة مدنية وديمقراطية”. وبرأيه، فإن “ثورة ديسمبر المجيدة خلقت وعياً لرفض فكرة الانقلابات العسكرية، وبدأت جادة في تفكيك نظام البشير عن مفاصل الدولة، وكشفت وعرّت استغلال الروافع القبلية وحاربت الفساد وخلقت رقابة شعبية على الأداء السياسي وعلى الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، بما يمكنها من صياغة مطالب الشعب وتحويلها لإطار سياسي ودستوري وبرامج سياسية”.
ويضيف حيدر أن العملية السياسية أهم ما يميزها منح الفرصة لأصحاب المصلحة الحقيقيين خلال الورش والمؤتمرات الأخيرة للتقرير والمشاركة في رسم المستقبل، موضحاً أن ما حدث من إجهاض للثورة بعد 11 إبريل سببه تطلعات بعض العسكريين وقوى سياسية مدنية في الحكم بدون أي مشروعية وهي التي حاولت الاستفادة من عدم الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي لتحقيق مكاسبها.
لكن المتحدث باسم لجان المقاومة السودانية عمر زهران يعتبر، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “نظام البشير سقط في 11 إبريل شعبياً ومجتمعياً لكن كوادره ظلّت موجودة في المؤسسات كما ظلّت الدولة الموازية قائمة”، لأن النظام مارس خلال 30 عاماً من الحكم التمكين لعناصره في الدولة وفي المؤسسات العسكرية.
ويبيّن زهران أن عدم سقوط النظام يتضح من خلال ممارسة القوات النظامية المختلفة وطريقة إدارتها وعنفها الذي تواجه به دعاة التغيير، كما يتضح من خلال إدارة اقتصاد الدولة عبر منظومة الصناعات الدفاعية وغيرها من منظومات. ويحمّل زهران مسؤولية ما حدث من إخفاقات للجميع، بمن فيهم الأحزاب والنقابات ولجان المقاومة التي يتحدث باسمها وكذلك لحكومة حمدوك. وبرأيه، فإن الكل بحاجة إلى نقد ذاتي لتطوير الأساليب حتى لا تتكرر ذات الأخطاء.
حسام حيدر: ما حدث من إجهاض للثورة بعد 11 إبريل سببه تطلعات بعض العسكريين وقوى سياسية مدنية في الحكم بدون أي مشروعية
ويؤكد زهران لـ”العربي الجديد” أن “العملية السياسية بين الانقلابيين وبعض القوى السياسية لن تتمكن من استعادة مسار الثورة، لأن للثورة أعداء أكثر وضوحاً، وأولهم المجلس العسكري الانقلابي الذي أخذ الفرصة وأصّر على الانقلاب على أهداف الثورة”. ويلفت في هذا الصدد إلى أن بقاء المجلس “لن يساعد في استعادة مسار الثورة والانتقال الديمقراطي”، منبهاً إلى أن نصوص العملية السياسية لا غبار عليها لكن المشكلة لم تكن أصلاً في كتابة النصوص بقدر ما أنها في تنفيذها. كما يشير إلى أن التنظيمات السياسية المشاركة في العملية السياسية تفتقر للروافع التنظيمية في التنفيذ كما حدث لها بعد توقيع الوثيقة الدستورية 2019.
ويلفت زهران إلى أن السودان يعيش حالياً ظاهرة التأسيس لمجتمع مدني قوي وقادر على تنظيم نفسه لقيادة حراك أوسع (مواكب وإضرابات وعصيان)، على أن يكون ذلك مكافئاً لظاهرة “التملش” (الاستقطاب الذي تنفذه المليشيات) والسلاح المحتكر، معتبراً أنه حينما يحدث التكافؤ بين الظاهرتين تحين شروط التسوية التأسيسية التي تبحث عنها الدولة منذ الاستقلال.
وإذا كان حزب المؤتمر الوطني، حزب البشير، أو واجهاته الأخرى، قد اختفوا تماماً ما بعد 11 إبريل إلا أن الحزب بدأ في الظهور والعودة التدريجية في ديسمبر 2019 إلى أن وصل إلى مرحلة النشاط العلني متحديا قرار الحكومة الانتقالية قبل انقلاب 25 أكتوبر بحلّه في ديسمبر 2019، فيما تتزايد داخل الحزب دعوات بمراجعة التجربة السابقة قبل التورط في معارك جديدة ويشددون على إصلاح البيت من الداخل أولاً.
وبرأي عبد الماجد عبد الحميد، وهو وزير ولائي سابق، فإن “حزب المؤتمر الوطني لم يستفد حتى اللحظة من الدرس، لأنه لم يجر مراجعات كافية ولم يجب عن سؤال رئيسي هو كيف سقط الحزب وسقطت تجربة 30 عاماً”.
ويوضح عبد الحميد لـ”العربي الجديد”، أن ما يقال عن مراجعات تمّت لم تحظ بالنقاش الموضوعي والعميق والأمين وكل ذلك سببه أن من سقط الحزب في زمنهم هم من يديرونه الآن ويمثلون جزءاً فاعلاً في إدارة المشهد السياسي. ويذكر في هذا الصدد أن النشاط الحالي للحزب يتم بنفس الآليات القديمة وبخطاب سياسي أملته الهجمة الشرسة على الحزب بعد الثورة، وهو رد فعل فقط دون التوافق على برنامج جديد للحزب وطريقة جديدة للتحالفات السياسية الداخلية والخارجية، مع تنظيم داخلي محكم، وتغيير جذري في العقلية القيادية، والابتعاد عن الشعارات الهتافية. وبرأيه، فإنه إذا حدث ذلك، يمكن للحزب العودة كما كان وحتى للسلطة.
في المقابل، يجزم محمد أبوزيد مصطفى، رئيس حزب منبر السلام العادل، ذي التوجه الاسلامي، بعودة الإسلاميين للسلطة متى ما جرت انتخابات، ذلك لأنهم أغلبية، ولأن تجربة ما بعد سقوط البشير جاءت نتائجها كارثية على كل الصعد.
ويقول مصطفى إنه على الصعيد السياسي، لم يحدث إنجاز واحد، حيث غابت الديمقراطية ولم تحقق العدالة وتسلطت مجموعة الحرية والتغيير الحاكمة على رقاب الناس وتحالفت مع المجموعة العسكرية واقتسموا السلطة والثروة، واختلفوا في نهاية المطاف، وهم يحاولون عبر العملية السياسية تكرار التجربة الفاشلة السابقة. وبرأيه، فإن البرهان يتحمل المسؤولية من تمكين لأحزاب صفرية والسماح بتدخل دولي غير مسبوق، بمثل ما تتحمل الحرية والتغيير مسؤولية كل الإخفاقات.
العربي الجديد